الثلاثاء، 29 يناير 2013

نشيد الانشاد ـ القديس امبروسيوس ـ 8 ـ دور المسيح في كنيسته المتألمة


ثامناً : دور المسيح في كنيسته المتألمة
نزول الكنيسة إلى مرارة التجارب 
64. بينما تتلقى المديح من العريس إذ بها في تواضع تأبَى أن تتقبَّله في حضرته.
دُعِيتْ من بواعث حب العريس لتقول:
 "نزلت إلى جنة الجَوْز لأعاين مولد السيل" (نش 6: 11).

 الآن، أين هي الكنيسة إلاَّ حيث توجد عصا الأسقف التي تفرخ (عد 17: 8)، وحيث توجد مواهبه الروحية؟ توجد هناك لتُمتَحن بالمرارة والتجربة؛ فالجَوْز يعني المرارة، والسيل يعني التجربة، لكن التجربة التي يمكن احتمالها، كما هو مكتوب: "عَبَرتْ أنفسنا سيلاً" (مز 124: 5). لهذا نزلت إلى موضع المرارة حيث تزدهر الكرمة والعديد من الأثمار كالرمان (نش 6: 11)، في المرارة تعرف النفس ذاتها، لأن الجسد الفاسد يثقل عليها، وسرعان ما ينحط مسكنها الأرضي، لكن عليها أن تعرف ذاتها.
بطرس جُرِّب ولم يعرف ذاته، لأنه لو عرف نفسه لما أنكر خالقه (لو 22: 54-62)، لكن المسيح عرفه. حقًا عرفه، لأنه ينظر إليه (لو 22: 61). "يعلم الرب الذين هم له" (2 تي 2: 19) كسيد صالح اجتذبه من سقطته بزمام رحمته، إن جاز التعبير.

المسيح يقود كلمته بمركبة
65. تقول النفس: "لقد جَعَلَتْني كمركبات عميناداب" (نش 6: 12 LXX). (عميناداب = عمي كريم، أو قوم شريف، أو أمير شعبي، أو مركب أميري).
النفس هي مركبة تحمل سيدها الصالح، لها جياد صالحة أو رديئة. الجياد الصالحة هي فضائل النفس، والرديئة هي الشهوات الجسدية، لهذا يكبح السيد الصالح الجياد الرديئة ويسحبها إلى خلف بينما يحث الصالحة (للتقدُّم إلى الأمام).
الجياد الصالحة أربعة: التعقل والاعتدال والثبات والعدل. والجياد الرديئة فهي الغضب والشهوة والخوف والظلم. أحيانًا تكون هذه الجياد في تعارض مع بعضها البعض، كأن يتهيّج الغضب أو الخوف فيعوق أحدهما الآخر ويبطئ الاثنان في تقدمهما. أما الجياد الصالحة فتنطلق طائرة، ترتفع عن الأرض إلى أماكن علوية؛ فترتفع النفس خصوصًا إن كان لها النِير الحلو والحمل الخفيف للقائل: "احملوا نيري عليكم، لأن نيري حلو وحملي خفيف" (مت 11: 29-30).
إنه السيد الذي يعرف كيف يسوس جياده، فيحافظ الكل على نفس الخطوة (ليسير الكل في انسجام). فإن كان التعقل سريعًا جدًا والعدل بطيئًا جدًا يحث الأكثر تكاسلا بسوْطه. وإن كان الاعتدال لطيفًا جدًا والثبات حادًا جدًا، يعرف كيف يوحّد غير المنسجمين حتى لا يفقدا تقدمهما.
حسنًا قيل: "قد جَعَلَتْنِي كمركبات عميناداب"، وهو اسم معناه "أب شعب"، وأب الشعب هو أيضًا أبو نحشون (عد 1: 7؛ 2: 3)، معناه "من الحية أو الثعبان". تذكروا الآن من عُلق على الصليب كحية لخلاص كل البشر (يو 3: 14، عد 21: 9)، فستدكرون التي لها الله حاميها والمسيح قائدها هي في سلام؛ لأن تلك اللفظة "قائد" وردت في كتابنا المقدس: "يا أبي يا أبي قائد (مركبة) إسرائيل" (2 مل 2: 12).

المسيح يصحح مسار الكنيسة (مركبته)

66. يقول ذلك القائد: "ارجِعي. ارجِعي يا شولميث" (نش 6: 12)، ومعناها "في سلام"، لأن النفس التي ترجع في سلام ترجع بسرعة وتصحح ذاتها. إذ سبق فأخطأت يركبها المسيح وبالحري يحسب ذلك لائقًا لكي يرشدها. له قيل: "اركب خيلك، مركباتك مركبات خلاص" (حب 3: 8 LXX). وفي نص آخر قيل: "أرسلت خيلك إلى البحر" (حب 3: 15 LXX). هذه هي جياد المسيح. يركب جياده، أي يركب كلمة الله النفوس التقية.

المسيح يُصعدها نخلة النصرة
67. على هذا الأساس، اعلموا أنه أيضًا قد ركب نفس العروس (الكنيسة) وقادها إلى موضع النخلة رمز النصرة، حينما قال لها: "ما أجملك وما أحلاك أيتها الحبيبة، في مباهجك، قامتك هذه شبيهة بالنخلة" (نش 7: 6-7). أما هي فتقول: "قلتُ إني أصعد النخلة" (نش 7: 8). المحبة ذاتها هي النخلة، لأنها هي نفسها ملء النصرة. "المحبة هي تكميل الناموس" (رو 13: 10)، فلنركض إذن لننالها.
من يغلب يصعد لينال النخلة وينعم بثمارها. من يغلب لا يبقى في السباق كما هو مكتوب: "من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبت أنا أيضًا وجلست مع أبي في عرشه" (رؤ 3: 21). من هذا المصدر رسم الفلاسفة سباقات المركبات للنفوس في كتبهم، لكنهم لم يستطيعوا بلوغ نخلة النصرة، لأن نفوسهم لم تعرف قامة الكلمة وارتفاعه. أما النفس التي يسكن فيها الكلمة فتعرف ذلك.

المسيح يبلغ بها إلى كمال الحب وسط جهادها
68. تتحدث هكذا: "أنا لأخي الحبيب، وإليَّ اشتياقه" (نش 7: 10 LXX). إنها تكرر هذا الفكر ثلاث مرات بطرق مختلفة في نشيد الأناشيد.
في البداية تقول: "أخي لي وأنا له، الراعي بين السوسن، إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال" (نش 2: 16-17LXX).
ثم تقول: "أنا لأخي الحبيب وأخي الحبيب لي، الراعي بين السوسن" (نش 6: 3 LXX).
وقرب النهاية تقول: أنا لأخي الحبيب وإليَّ اشتياقه" (نش 7: 10 LXX).
تقترن الحالة الأولى بتكوين النفس، لذا تقول أولاً: "أخي لي"، فإنه ما أن يَسْتعلِن ذاته تدخل النفس التي لم تكن قد التصقت بالله في طريق الحب.
ما يلي ذلك يشير إلى تقدم النفس.
أما الحديث الثالث فيشير إلى كمالها.
في المرحلة الأولى، أي مرحلة التكوين، ترى النفس ظلالاً لم تكتمل بعد باستعلان قدوم الكلمة (نش 2: 17)، ومن ثم لم يكن قد سطع بعد عليها نور الإنحيل. وفي الثانية تنعم بروائح ذكية دون اختلاط بالظلال، وفي الثالثة تكتمل إذ توفر للكلمة موضع راحة فيها، فيلتفت إليها ويسند رأسه عليها وهي تبحث من قبل وتدعوه قائلة:

المسيح يقوت المُتعبين
69. "تعال يا أخي فلنخرج إلى الحقل، لنسترح في القرى" (نش 7: 12). سبق أن دعته إلى جنتها، وهنا تدعوه إلى حقل ليس فيه أزهار جميلة فحسب، بل فيه أيضًا قمح وشعير، أي إلى أساسات أقوى للفضائل، لكي ترى ثمارها.
"لنسترح في القرى" التي إليها نُفِيَ آدم حينما طُرِد من الفردوس. فيها يجد راحة، لكنه يعمل في الأرض.
إدراكنا لسبب رغبتها في أن يخرج إلى الحقل واضح: أن يُطعم قطيعه كراعٍ صالح (يو 10: 11؛ إش 40: 11؛ حز 34: 23)، يسند المتعبين، ويسترد الضالين. فبالرغم من أن تلك النفس قد إنحزت له الجديد والعتيق (الثمار الطازجة والعتيقة) (نش 7: 13) لكنها لا تزال مثل حمل يجب تغذيتها بشراب اللبن (1 كو 3: 2).
يبدو أنها صارت كاملة، لا لنفسها بل للغير، لهذا تتشفع أن يخرج من حضن الآب، يخرج من الأبواب كالعريس الخارج من خدره المجري سباقه (مز 19: 5). تتشفع أيضًا أن يربح الضعفاء وألاَّ يتوانى في عرش الآب البعيد وفي ذلك النور، لأن لمن لا قوة لهم لا يستطيعون البلوغ إلى هناك، إنما يأتي إلى مسكن العروس وحجالها (نش 8: 2 LXX)، وأن يخرج من الأبواب لكن في الداخل لأجلنا، وأن يكون في وسطنا حتى وإن كنا لا نراه (يو 1: 26).
المسيح يدخل أبواب العروس
70. على هذا الأساس تقول: "من يعطيك لي كأخ، يا أخي، الراضع ثَدْيَيْ أمي؟ إذا ما وجدتك خارج الأبواب أقبِّلك" (نش 8: 1).
صالحة هي النفس التي هي خارج الأبواب ليدخل الكلمة داخلها، هي خارج الجسد كي يسكن الكلمة فينا (كو 3: 16).

المسيح يرتفع معها إلى العلويات
71. "سآخذك إلى أعلى وأقودك في الداخل" (نش 8: 2). حسن أن نأخذ كلمة الله إلى أعلى ونقوده للداخل، لأنه يقرع على النفس. ليُفتح له الباب، فإنه ما لم يجده مفتوحًا لا يدخل. لكن إن فتح أحد يدخل ويتعشى معه (رؤ 3: 20). تأخذ العروس الكلمة إلى أعلى بطريقة هكذا قد تعلمتها. لهذا ليس بدون سبب تبقى النفس ترتفع إلى المنازل العلوية متقدمة على الدوام.
على المسيح تستند العروس صاعدة
72. هذا ما تعنيه الفضائل (ربما يقصد طغمة سماوية) إذ يقولون: "مَنْ هذه الطالعة المتسربلة بثوبٍ أبيض، مستندة على أخيها؟" (نش 8: 5 LXX). منذ برهة قالوا: "مَنْ هي المشرقة مثل الصباح، جميلة كالقمر، طاهرة كالشمس" (نش 6: 9 LXX)؟ هنا نجد إضافات، إذ تصعد مستندة على كلمة الله، لأن مَنْ هم أكثر كمالاً يستندون على المسيح تمامًا كما كان يوحنا متكئًا على صدر يسوع (يو 13: 23). فهي إذًا إما أنها استراحت في المسيح أو استندت عليه أو حتى - مادمت أتحدث عن الزواج - قد نالت قوة المسيح، واقتيدت إلى حجال العروس بواسطة العريس.

المسيح يتعهدها تحت شجرة التفاح
73. لأن اتحادًا من الحب قام الآن، فالعريس يعانقها قائلاً: "تحت شجرة التفاح تعهدتك هناك، ولدتك أمك هناك، ولدتك التي حملت بك" (نش 8: 5 LXX).
طوبى للنفس التي تجلس عند الشجرة المثمرة، خصوصًا الشجرة ذات الأريج الطيب. لأنه إن كان نثنائيل الصالح الذي لم يكن فيه عيب قد رُئي تحت شجرة تين (يو 1: 47-50)، فمن المؤكد أن النفس التي يتعهدها العريس تحت شجرة تفاح هي نفس صالحة. إنه لأمر أعظم أن تُتعهَّد عن أن تُنظر، والأعظم أن يتعهَّدها العريس نفسه (نش 8: 5).
فإنه على الرغم من أن نثنائيل قد شوهد تحت شجرة، لكن نفسه لم تكن عروسًا، إذ جاء إلى المسيح سرًا، لأنه كان يخشى اليهود. لم تكن نفسه جميلة كالقمر، طاهرة كالشمس (نش 6: 10)، لأنها كانت في الظل، بينما تزوج العريس نهارًا معلنًا ذلك جهارًا.
إن كانت (نفس ما) تحت شجرة التفاح والأخرى تحت شجرة التين، فلأن الأولى نشرت عبير عمل إيمانها على مساحات أوسع، أما الأخرى فاقتنت عذوبة الطهارة وعدم الخزي لكنها لم تملك عبير الروح.

المسيح يُتصوَّر في النفس
74. "هناك ولدتك أمك، هناك ولدتك من حبلت بك". لأننا وُلدنا هنا ميلادًا جديدًا. لذلك هم أيضًا يولدون (خلالنا) الذين فيهم يُتصوَّر المسيح، لذا يقول الرسول: "يا أولادي الذي أتمخض بهم إلى أن يتصور فيكم" (غل 4: 19). الآن حالة ولادة تلك التي تُقدّم روح الخلاص في رحمها وتسكبه على الآخرين.

المسيح ختم عروسه
75. على هذا الأساس إذ يُتصوَّر المسيح فعلاً فيها، تقول العروس: "اجعلني كخاتم على قلبك، كخاتم على ساعدك" (نش 8: 7). المسيح هو خاتم على الجبهة وختم في القلب. على الجبهة حيث نعترف به على الدوام، في القلب لأننا نحبه دومًا، علامة على الذراع حيث نمارس عمله باستمرار. لهذا فلتُشرق صورته في اعتراف إيماننا، ولتُشرق في حبنا، وفي أعمالنا وأفعالنا حتى إن أمكن ينعكس كل جماله فينا.
ليكن رأسنا، لأن "رأس الرجل المسيح" (1 كو 11: 3).
ليكن عيوننا، به نرى الآب.
ليكن صوتنا، به نحدث الآب.
ليكن يميننا، به يمكننا أن نأتي بذبيحتنا لله الآب.
هو أيضًا ختمنا الذي هو علامة الكمال والحب، لأن الآب إذ يحب الابن وضع خاتمه عليه، كما نقرأ: "لأن هذا الله الآب قد ختمه" (يو 6: 27).
فالمسيح هو حبنا! صالح هو الحب، إذ قَدَّم ذاته للموت عن تعديات العالم. صالح هو الحب الذي يغفر الخطايا.

المسيح يسربل عروسه بالحب حتى الموت
76. فلتتسربل نفوسنا بالحب (هنا إشارة إلى المعمودية حيث نلبس المسيح الحب)، الحب القوي كالموت (نش 8: 6). لأنه كما أن الموت هو نهاية الخطايا (به نكف عن ارتكاب الخطايا)، هكذا أيضًا المحبة، لأنَّ مَنْ يحب الرب يكف عن ارتكاب الخطية. لأن المحبة "لا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم، بل تحتمل كل شيء" (1 كو 13: 5-7). لأنه إن لم يطلب الإنسان ما لخيره كيف يطلب ما هو لخير الآخرين؟ (1 كو 13: 5).
قويٌّ أيضًا هو ذلك الموت الذي بالجرن (المعمودية) الذي به تُدفَن كل خطية، ويُغفَر كل إثم. هكذا كانت المحبة التي جاءت بها المرأة المذكورة في الإنجيل والتي قال عنها الرب: "غُفِرتْ خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرًا" (لو 7: 47).
قويٌّ أيضًا هو موت الشهداء القديسين الذي يُبيد الإثم المبكر، الموت المعادل لآلام الشهداء قويٌّ حتى إنه يمحو عقاب الخطايا.

المسيح يَهَب النفس أجنحة نار الغيرة المقدسة
77. "الغيرة كالعالم السفلي (الهاوية) (نش 8: 6)، لأن مَنْ له غيرة لله لأجل المسيح لا يفقد ما هو عليه. المحبة تحتضن الموت؛ المحبة تحتضن الغيرة، للمحبة جناحان من نار. إذ أحب المسيح موسى ظهر له في نار. وإذ اقتنى إرميا موهبة الحب الإلهي يقول: "نار محرقة محصورة في عظامي فضعفتُ من كل جانب ولم أستطع" (إر 20: 9 LXX).
صالحة هي المحبة، إذ لها جناحان من نار محرقة، تلتهب في صدور القديسين وقلوبهم، وتُحرِق كل ما هو مادي وأرضي، لكنها تمتحن كل ما هو طاهر، وبنارها تجعل كل ما تمسه في حالٍ أفضل. هذه النار أرسلها الرب يسوع على الأرض (لو 12: 49)، ليسطع الإيمان في وضوح وتتَّقِد تَقْوَى العبادة، ويَستنير الحب ويتألق البرّ.
بهذه النار ألهبَ قلب رسله، كما شهد كليوباس، قائلاً: "ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا عندما كان يوضح لنا الكتب؟" (لو 24: 32). لهذا فجناحا النار هما لهيب الكتاب المقدس.
حقًا، لقد فسر الكتاب المقدس: فانطلقت النار واستقرت في قلوب سامعيه. حقًا كانت أجنحة نار، لأن "كلام الرب كلام نقي كفضة مصفاة بالنار" (مز 12: 6). وحينما اختار الرب بولس، رأى (بولس) نورًا أبرق حوله وحول الذين كانوا معه، فسقط على الأرض خوفًا وقام مقبولاً، والذي كان مُضطهِدًا (للكنيسة) صار رسولاً! (أع 9: 3-7؛ 1 تي 1: 13).
أيضًا نزل الروح القدس "وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار" (أع 2: 2-3).
صالحة هي أجنحة الحب، الأجنحة الحقيقية التي ترفرف على أفواه الرسل؛ أجنحة النار التي تنطق الكلام النقي (مز 12: 6).
على تلك الأجنحة طار أخنوخ حين اُختطِفَ إلى السماء (تك 5: 24).
وعلى هذه الأجنحة انطلق إيليا حينما صعد بالمركبة النارية والجياد النارية إلى الأماكن العلوية (2 مل 2: 11).
على هذه الأجنحة قاد الرب الإله شعب الآباء البطاركة بعمود من نار (خر 13: 21).
للسيرافيم هذه الأجنحة، فحينما أخذ ساروف جمرة النار من على المذبح، ولمس بها فم النبي، أزال آثامه وطهر خطاياه (إش 6: 6-7).
بنار هذه الأجنحة تطهَّرَ أبناء لاوي (ملا 3: 3) وتعمدت قبائل الأمم كما يشهد يوحنا حينما قال عن الرب يسوع: "سيعمدكم بالروح القدس ونار" (مت 3: 11؛ يو 1: 33).
حقًا أراد داود لحقويه وقلبه أن تُحرق (وتُصفَّى بالنار مز 26: 2)، إذ عرف أنه لا ينبغي أن يخشى أجنحة الحب النارية.
لم يشعر الفتية العبرانيون في أتون النار المتقدة (بحرارة) النار المستعرة، والسبب معروف أن لهيب الحب أعطاهم برودة (دا 3: 50).
ولكي نعرف أكثر أن للحب الكامل أجنحة اسمعوا المسيح يقول: "كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها؟" (مت 23: 37).

المسيح يرفع النفس إليه (الخير الأعظم)
78. لنأخذ إذن تلك الأجنحة مادامت كلهيب يتَّجه إلى الأماكن العلوية. ليجرد كل إنسان نفسه من أغطيتها الدنيئة ويزكيها بأن تتطهر من الحمأة تمامًا كما تصفي النار الذهب، إذ تتنقَّى كأفضل أنواع الذهب تمامًا. أيضًا جمال النفس وفضيلتها النقية وحُسنها تكمن في معرفتها الأصدق للأمور العلوية، فتنظر الخير الذي تعتمد عليه كل الأشياء، والذي لا يعتمد هو على شيء. هناك تعيش وتتمتع بإدراكاتها، لأن هذا الخير الأسمى (المطلق) هو أصل الحياة. تَتَّقد فينا محبته والاشتياق إليه، فتصير رغبتنا هي الاقتراب منه والارتباط به.
إنه مرغوب لمن يره، وحاضر لمن ينظره.
لهذا يحتقر (الإنسان) كل شيء، ويُسَرّ ويفرح بهذا وحده. فهو الذي يسند الكل بكيانه، وهو قائم بذاته. يعطي الآخرين ولا يأخذ شيئًا لذاته من الغير. عنه يقول المرتل: "قلت لربي أنت إلهي، لأنك لا تحتاج إلى شيء من خيراتي" (مز 16: 2 LXX). هذا وحده ما يشتاق (المرتل) أن يراه. كما يقول في موضع آخر: "واحدة سألت من الرب وإياها ألتمس، أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي، لكي أنظر إلى جمال الرب وأتفرَّس في هيكله" (مز 27: 4).
إن استحق إذن أحد أن يرى هذا الخير الفائق اللاجسداني النقي فإلى ماذا سواه يشتاق؟ لقد رأى بطرس حقًا مجد قيامة المسيح فلم يُرِد أن ينزل، إذ قال: "يا رب جيد أن نكون ههنا!" (مت 17: 4).
ماذا يمكن أن يكون أعظم من مجد اللاهوت الذي لا يُقارن والنور الذي لا يُدنَى منه؟ (1 تي 6: 16). أي شيء أعظم من هذا يمكن أن يراه الإنسان أو يرغب فيه؟ فالملكوت لا يُقارَن، لا بالغِنَى ولا بالكرامات ولا بالمجد ولا بالقوة التي في استخدامها لا تحل البركات؛ لكن الانتفاع بهذا الخير الفائق أمر مُطوَّب. فلا يتدنَّى الإنسان متطلعًا إلى مثل هذه الأمور (الدنيا) بل يلتفت إلى ذلك الخير ويبقى فيه. وإذ يرى تلك الصورة البديعة يدخل إلى الداخل ويترك شبه الجسد الأمور الخارجية.
فإن مَنْ يهتم بالأمور الجسدانية لا يهتم بالحري بالداخل، بل بالأحرى يُشبِه مَنْ يغرق في دوامة ويُبتلَع فيها فلا يظهر في أي مكان بل يغوص في الأعماق.
لنهرب إذن إلى موطننا الحقيقي الأصلي؛ هناك وطننا، وهناك أبونا الذي خلقنا، حيث مدينة أورشليم أم جميع البشر (غل 4: 26؛ عب 12: 22).

المسيح يطلقنا إلى أورشليم العليا
79. لكن ما هذا الهروب؟ إنه ليس هروبًا بالأرجل الجسدية، لأنها مهما جرت تبقى على الأرض وتَعبُر من تربة إلى أخرى.
لنهرب لا بسفن ولا بمركبات ولا بخيل، لأن هذه تُعوِّق وتُعثِر، إنما لنهرب بالروح والأعين والأقدام الداخلية. ليت عيوننا تعتاد أن ترى المُشرِق والساطع، تنظر وجه العفة والاعتدال وكل الفضائل التي ليس فيها ما هو قبيح أو مُبهَم أو مُعقَّد. ليتطلع كل أحد إلى نفسه وإلى ضميره، وليغسل عينه الداخلية فلا يكن فيها قذارة. لأن ما يُرى يلزم ألاَّ يخالف مَنْ يُرى، إذ يريد الله أن نتوافق مع صورة ابنه (رو 8: 29).
فالخير معروف لدينا؛ ليس ببعيد عن أحدٍ منا، إذ به نحيا ونتحرك ونوجَد... لأننا نحن أيضًا ذريته (أع 17: 28)...
هذا هو الخير الذي نطلبه، الخير الوحيد، لأنه ليس صالح إلا الله وحده (مر 10: 18؛ لو 18: 9).
هذه هي العين التي تنظر الجمال الحقيقي العظيم؛ العين القوية السليمة التي وحدها تعاين الشمس؛ إنها النفس الصالحة التي وحدها ترى الصلاح. لذلك مَنْ يريد أن يرى الرب وطبيعة الخير يلزمه أن يكون صالحًا.
لنكن مثل هذا الصالح (الله) ونصنع أعمالاً صالحة تليق به. هذا هو الخير (الله) الذي يفوق كل عمل وكل فكر وكل فهم. إنه ذاك الذي يبقى دائمًا، ونحوه تتجه كل الأشياء. "الذي فيه يحل ملء اللاهوت" (كو 2: 9)، وبه تتصالح كل الأشياء.
ولكي نعرف طبيعة الخير بالأكثر، فالحياة هي الخير، لأنها ثابتة على الدوام، تَهب الجميع وجودهم وكيانهم. ومصدر حياة الكل هو المسيح، الذي عنه يقول النبي: "في ظله نعيش" (مرا 4: 20). الآن "حياتنا مستترة في المسيح، ومتى أُظهِر المسيح حياتنا، فحينئذٍ نحن أيضًا نظهر معه في المجد" (كو 3: 3-4). لهذا يليق بنا ألاَّ نخشى الموت، فإنه راحة للجسد وحرية للنفس وانفصالها لها. يجب ألاَّ نخاف من يقتل الجسد ولكن النفس لا يقدر أحد أن يهلكها (مت 10: 28).
لأننا لا نخشى من يخلع ملبسنا، ولا نخاف مِمَّنْ يستطيع أن يسلب ممتلكاتنا لكنه لا يقدر أن يسلبنا أنفسنا. إننا إذن نفوس، إن كنا نرغب أن نكون عبرانيين مرافقين ليعقوب (47: 26-27)، مُتشبِّهين به. نحن نفوس، أما أعضاؤنا فهي لباسنا. يلزم أن يُحمى اللباس بحق فلا يُمزَّق ولا يُبلى (عب 1: 11)، لكن يليق بمن يستخدمه أن يحمي أولاً نفسه ويحرسها.

العودة إلى : 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق