الحرب الأولى!!
لم تمض فترة كبيرة على تتلمذ الأنبا انطونيوس لذلك الشيخ المتوحد حتى ظهرت فضائله و شاع جميل صفاته، فأنزله معلمه من نفسه منزلة كبيرة و نظر إليه نظرة ملؤها الرجاء و الأمل و ابتدأ يهتم به الإهتمام كله.. لاحظ هذا الشيخ الروحاني أن الأنبا أنطونيوس يحفظ و يتلى أمامه من فصول الكتاب المقدس بمجرد القراءة الأولى لها!
لم يهمل انطونيوس دراسة كلمة الله دواماً ، بل فلنقل انها كانت تعزيته فى وحدته وفى أوقات فراغه، وكان على الدوام يقول: " سراج لرجلي كلامك و نور لسبيلي " (مز 116: 105) " الوصية مصباح والشريعة نور " (أم 6: 23) – ودراسة الكتاب المقدس من أهم مستلزمات الإنسان المؤمن إذ بها: " يعرف الكتب المقدسة القادرة أن تصيره حكيماً للخلاص بالأيمان بيسوع المسيح " (2 تي 3: 15).
نظر الشيطان إلى حالة الأنبا انطونيوس و فضائله فوجد أنه ينمو دواماً فى النعمة والمعرفة، و لكن أيتركه على هذه الحال؟! لقد أدرك الشيطان أنه إذا ما نجح القديس فى رسالته هذه، فسوف تتحول البرارى والقفار إلى جنات مقدسة تمتلىء بالعابدين، وفى هذا ما فيه من خذلان و سقوط له، فماذا يفعل؟
تجربة الطعام :
تلك هى حملة الشيطان الأولى " تجربة الطعام ".. حاول الشيطان أن يذكر انطونيوس بملذات الطعام، الذى كان يأكله فى بيت أبيه.. بالاضافة إلى مباهج الحياة.. نفس الحرب التى أمكن للشيطان أن يتغلب فيها على أبونا آدم و أمنا حواء..! و صاحب السيرة إذ كان يعرف تماما
" أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله " (مت 4: 4).. انتصر على تلك التجربة بكل سهولة، و استطاع أن يشتت هذه الحملة الأولى، إذ كان يقول:
" لقد تدربت أن أشبع وأن أجوع " (فى 4: 12)..
" وقد تعلمت أن اكون مكتفيا بما أنا فيه!.. " (فى 4: 11).
و تجربة الطعام تجربة قاسية، جرب بها اسرائيل عند خروجهم من أرض مصر بذراع رفيع ويد قوية، فلم يقووا على تحملها.
هذا شعب جرب عن طريق الطعام و سقط، لهذا جاء السيد المسيح و صام عنا أربعين يوما وأربعين ليلة وتغلب على الشيطان، ليعطينا أن نغلب نحن أيضا على المحاربات الروحية.
تجربة المال :
انتصر القديس فى تجربة الطعام.. حاول الشيطان أن يحمله على التفكير فى حالته الأولى ولكنه وجد عدم اهتمام من الفتى الذى كان يقول دواماً:
" أنسى ما هو وراء وامتد إلى ما هو قدام ". (فى 3: 13)
و يذكر فى بعض الميامر أن الشيطان كان يكشف للقديس عن بعض الكنوز الذهبية التى واراها التراب لعله يتأثر ببريق الذهب ولمعانه و عندئذ يصبح على قاب قوسين أو أدنى من السقوط، إلا أن انطونيوس كان يناجى نفسه عندما يرى مثل هذه الكنوز قائلا:
" حد عنه و اعبر " (أم 4: 15). " إهرب لحياتك " (تك 19: 17) "
إذ لا يمكن للإنسان أن يخدم سيدين الله والمال! " (مت 6: 25)، يفعل هذا وفى الوقت عينه يزيد فى تقشفاته و أماناته و سهره و صلواته، وبذلك كتب له النصر فى هذه الحملة الثانية!!
و كم من أناس يغريهم الشيطان بمحبة المال فيسقطون، تاركين كل شىء وراء ظهورهم عدا عبادتهم لأموالهم، دون أن ينصتوا لقول الرسول:
" هلم الآن أيها الأغنياء أبكوا مولولين على شقاوتكم القادمة، غناكم قد تهرأ وثيابكم قد أكلها العث، ذهبكم وفضتكم قد صدئا، وصداهما يكون شهادة عليكم ويأكل لحومكم كنار، قد كنزتم فى الأيام الأخيرة.. قد ترفهتم على الأرض وتنعمتم وربيتم قلوبكم كما فى يوم الذبح " (يع 5: 1 – 5).
لهذا حق للقديس أنطونيوس أن يحذر تلاميذه قائلاً:
" إن الراهب لا يكون راهبا صادقاً ما لم يتمم قول المخلص للشاب الطالب الكمال: " إن أردت أن تكون كاملاً اذهب بع مالك و اعطه للمساكين " (مت 19: 21).
مما يذكر عن الأنبا أنطونيوس :
إن شاباً غنياً رغب يوماً فى الزهد و العبادة، فوزع جزءا من أمواله على الفقراء و احتفظ بالباقي لنفسه، ثم ذهب ليتتلمذ للأنبا أنطونيوس الذى إذ علم بما فعله قال له: إنني لا يمكنني أن أقبلك راهباً إلا إذا ذهبت إلى المدينة و أحضرت مقداراً من اللحم و حملته فى ثيابك إلى ههنا، و لرغبة الشاب فى متابعة القديس أطاع، وما أن وضع اللحم فى جلبابه و سار به حتى ابتدأت الكلاب تنهشه والطيور الجارحة تحوم حوله و تنقض عليه، و لما وصل إلى القديس شرح له ما حدث فقال له:
" لقد حفظت لنفسك مالاً وأردت أن تكون ناسكاً زاهداً، ولا يمكن يا ابنى الجمع بين الرغبتين! لأن العابد الذى يسعى فى إحراز المال و السير مع العالم لا بد أن يصبح هدفا لأنياب الكلاب الجهنمية و مخالب الطيور الجحيمية! "
و للحال قام الشاب بتوزيع كافة أمواله وعاش ناسكاً زاهداً حقيقياً.
تجربة الإهتمام بشقيقته:
بدأ الشيطان يشغل تفكير انطونيوس فى أخته والتفكير فى حالها وفى معيشتها.. أهى آمنة مطمئنة ؟ أهى فرحة مستريحة ؟ أم تعيش فى آلام، و تسير بين أشواك؟!
تقبل أنطونيوس هذه الحملة بثبات تام و رباطة جأش، متأكداً أنها وديعة مقدسة تسلمها رب المجد و هو كفيل بالعناية بها و المحافظة عليها إذ إن نسيت الأم رضيعها فأنا لا أنساكم يقول الرب، وما دامت حياتها الروحية فى نمو وتقدم، فهذا كل ما يبغيه أتباع السيد المسيح الذى يأمرنا قائلا ً:
إطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم (مت 6: 33).
و هكذا استراح تفكير انطونيوس عندما تذكر قول المخلص:
" من لا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وأخوته وأخواته حتى نفسه فلا يقدر أن يكون لى تلميذا؟! (لو 4: 26) إذن:
" دع الموتى يدفنون موتاهم! ". (مت 8: 22، لو 9: 60).
الحرب الثانية:
" ان قلمي لم يسطر من فضائل القديس انطونيوس الكثيرة و تقشفاته الشاقة.. وحروبه وانتصاراته الباهرة إلا واحدا من مائة!.. ولكن هذا المقدار كاف لأن تعلموا كيف تدرج رجل الله منذ نعومة أظفاره حتى نهاية أيام شيخوخته، وكيف داس تحت أقدامه كل غواية شيطانية!! " (أثناسيوس الرسولي).
خرج الأنبا انطونيوس من حربه الأولى مع الشيطان فائزاً منتصراً، غير أن انتصاره لم يمنعه من أن يتحصن اكثر فأكثر، لعلمه أن عدوه اللدود لن يتوقف عن محاربته ومهاجمته، ففضلاً عن صلواته و أصوامه وعبادته كان يسهر جل الليل – إن لم يكن كله – ذاكراً:
" إن محاربتنا ليست مع لحم ودم بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية فى السماويات " (أف 6: 12).
الحملة الأولى: الشهوات الشبابية
بدأ الشيطان حملته الأولى بأن ترآى للقديس فى شكل نساء جميلات.. أو فى محاربات فكرية و أحلام ورؤى وغيرها.. تأمل القديس هذه الحروب وهنا تذكر قول بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس:
" أما الشهوات الشبابية فاهرب منها " – وهنا أمسك بترس الصلاة، فلم يكد يبدأ بها حتى تلاشى من أمامه هذا المنظر الشرير!.
ثمة مناظر كثيرة كهذه تتمثل للفرد فى كل يوم، يغريه بواسطتها الشيطان على السقوط فى الخطية، و خير مثل لنا نحتذيه فى هذا الصدد هو يوسف البار الذى إذ تجسمت الخطية أمام عينيه رفضها فى إباء وتعفف عظيمين، قائلا:
" كيف أفعل هذا الشر العظيم و أخطىء إلى الله؟!".
الحملة الثانية : الضرب والتعذيب
على اثر انتصار انطونيوس فى حملته الأولى هذه، انتقل من مكانه و اعتزل فى قبر قديم هو أشبه بمغارة صغيرة، و هناك كان يصرف وقت فراغه فى عمل السلال من الخوص، وعندما كان يعاوده صاحبه الذى كان يتعاهده بالطعام بين الحين والآخر، كان يحمل عمل يدى القديس معه ليبيعه و يشترى بثمنه خبزاً.
دهش الشيطان من قوة احتمال القديس و شدة تحصنه، و فى ذات ليلة وثب عليه و ابتدأ يضربه بكل قوته !، ولم يتركه إلا بعد أن خارت قواه و سقط على الأرض أشبه بميت منه بحي!..
و عندما جاء صاحبه و وجده على هذه الحال.. حمله و أوصله إلى كنيسة القرية المجاورة.. حضر الجميع ليروا القديس وكم كان الهم شديداً عندما أبصروه على هذه الحال ظانين أنه قد أشرف على الموت.
و بعد أن فتح عينيه.. و تذكر ما حدث طلب من صاحبه أن يعيده دفعة ثانية إلى المكان الذى كان فيه، فرضخ صاحبه للأمر وتمم رغبته.
و ما أن اختلى القديس أنطونيوس بنفسه حتى شرع يصلى بصوت الواثق المطمئن قائلاً:
(مز 27)
الرب نورى و خلاصي ممن أخاف!
الرب حصن حياتي ممن أرتعب..
عندما اقترب إلى الأشرار ليأكلوا لحمى..
مضايقي و أعدائي عثروا وسقطوا..
إن نزل على جيش لا يخاف قلبي..
و إن قامت على حرب ففى ذلك أنا مطمئن.. "
الحملة الثالثة: الرعب والتخويف
تظاهر الشيطان للقديس أنطونيوس على شكل وحوش مفترسة يحاولون مهاجمته.. كل هذا والقديس فى مكانه لم يتحرك! بل قال:
" حتى شعور رؤوسنا محصاة أمامه " (مت 10، لو 12).
بدأ القديس يسخر من إبليس قائلاً لهم: لو كانت لكم قدرة على إيذائي لكفى واحدا منكم لمحاربتي!.. ثم رشم علامة الصليب، فإذا بكل ما حدث كأنه لم يكن!!
إن روح التواضع التى عاشها القديس أنطونيوس غلبت الشياطين، و هربت منه.
لقد عرف أثناسيوس الرسولي أن يرسم صورة خلابة لحياة معلمه العجيب أنطونى فى هذه الفترة فبين للعالم أجمع كيف تكتلت عليه الشياطين لعلهم يظفرون به، فيدفعوه إلى العودة عن الطريق الذى أختطه لنفسه فسار وراءه الملايين، فصور لنا أثناسيوس الرسولي كل تلك التجارب و الحروب التى تعرض لها القديس أنطونى، ولا يزال الناس يتأملون هذه الصورة التى صورها أثناسيوس لمعلمه فتخلب ألبابهم ويقفون أمامها حائرين متعجبين: إنها صورة غير المستطاع وقد أصبح مستطاعا، و صورة الآيات والعجائب تحدث يوميا، وخلف هذه الصورة الأخاذة يرن صوت أنطونى: " لا يزعمن انسان ترك العالم أنه أتى عملاً عظيماً، فالعالم كله مقابل السماء و الأبدية ليس سوى نفاية ".
و لقد وصف مؤرخ غربي هذه الفترة من حياة الأنبا انطونى بقوله :
" لقد تعرض القديس و هو فى خلوته الأولى لتلك المحاربات الشيطانية التى جعلت من حياته موضع السخرية للمتشككين، و الشفقة للمتساهلين، و الدهشة للمؤمنين المتيقنين من وجود عدو يزار كالأسد و من قوة غير منظورة تنصر الكنيسة بلا إنقطاع، ومن يتشكك فى هذه المحاربات إنما ينكر كل حادث خارق للطبيعة و يزدرى بشهادة عدد عديد من الناس الذين لا يتطرق الشك إلى قداستهم، و لسنا هنا نحاول الدفاع عن هذه المحاربات الخارقة، و لكن الذى لا يمكن الشك فيه مطلقا هو أن العيشة التى قضاها أنطونى ورهبانه المصريون هى انكار لكل الغرائز و الميول الطبيعية. وهذه الحياة الخارقة للطبيعة التى عاشها هؤلاء الرهبان فى خطر مستديم ، وفى جوع و ألم، هى أعجب ما عرفه الإنسان، وهم كانوا يتحملون كل هذه الضيقات والمخاطر من غير أن يمتدحهم إنسان – أي أنهم لم يطلبوا مجداً من الناس لأنهم عاشوا فى معزل عن الناس.
الرجوع الى : موسوعة القديس انطونيوس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق