افرحوا في الرب كل حين و اقول ايضا افرحوا (في 4 : 4)
السبت، 28 نوفمبر 2015
الأنبا أنطونيوس كوكب البرية ـ مؤسس الرهبنة فى مصر والعالم
الأنبا أنطونيوس كوكب البرية
مؤسس الرهبنة فى مصر والعالم
مقدمة
يمثل تاريخ المسيحية حقبة هامة من حلقات التاريخ القومي المجيد لمصر، إلا أن عناية قدامى الكتاب و المؤرخين وحتى الحديثين منهم كانت هزيلة، و الأقباط أنفسهم قصروا فى تدوين تاريخهم، فكان لهذا التهاون المعيب أثره الضار بفقدان العديد من جلائل الأعمال التى امتاز بها تاريخ مصر القبطي.
و عندما شرع الغرب فى دراسة التاريخ المصرى القديم، وقد بهرتهم آثار الفراعنة وحضارتهم العظيمة التى خلبت عقولهم، فكان اهتمامهم بها بالغا حتى حجب بريقها عن أبصارهم الحضارات الأخرى التى ترعرعت على ضفاف وادى النيل مثل مظاهر الحضارة القبطية..
و من أروع مظاهر الحضارة القبطية مثلاً: تاريخ الرهبنة المصرية! وأديرتها وزعمائها وآباء الكنيسة المصرية وكل ما يتعلق بهذا التراث الهائل الخالد، والذى يجب أن يأخذ حقه من العناية والبحث الدقيق.
ينبغى أن نلفت أنظار الجميع بأن دراسة تاريخ العصر القبطي لا يعتبر مسألة طائفية بحتة، بل هى دراسة قومية بكل معانيها، وعلى الأخص فيما يتعلق بموضوع " إحياء تراثنا القومي " فى شتى مراحله، و مما لا ريب فيه أن أعمال الرهبنة المصرية وزعمائها وتعاليم الآباء المصريين فى هذا المضمار من تاريخنا القومي هى من أعظم المخلفات التى جادت بها القرائح المصرية على العالم المتمدين أجمع.
كان للرهبنة المصرية دور بالغ الأهمية فى التأثير على المجتمع المصرى، فى مجالات استراتيجية تهم الوطن المصرى ككل:
+ كان لزعماء الرهبنة وآباء الكنيسة دور كبير فى مناهضة الإستعمار وتحملوا أبشع صنوف العذاب والتنكيل بهم برباطة جأش، كان للرهبنة دور كبير فى إيقاظ الروح القومية بين جموع الشعب ومناهضة الإستعمار البغيض، كان لآباء الكنيسة نظرة ثاقبة حتى فى الأمور السياسية التى يغفل عنها القادة السياسيون، ومازال هذا الدور قائما فى عهد قداسة الباب شنودة الثالث.
+ كان للرهبنة القبطية والكنيسة القبطية الأرثوذكسية دورها الحاسم فى اقتلاع جذور الوثنية من مصر! التى استمر تاريخها لقرون طويلة سبقت دخول المسيحية إلى أرض مصر.
+ كان للرهبنة القبطية دورها الإجتماعي و الروحي فى اقتلاع الخرافات وأعمال السحر من عقول أبناء الوطن، كانت الأديرة بمثابة المنائر المضيئة فى وسط جو عام يموج بالغموض والظلام، كما قدمت الأديرة كل ما يحتاجه المواطن المصرى من علاج وطعام، كانت الأديرة هى الملاذ الآمن لكل نفس تبحث عمن يهدىء من روعها..
+ لا ننسى دور المكتبات (بالأديرة) التى امتلأت بكتب وكتابات آباء الكنيسة، فى شتى المجالات الدينية والروحية والفلسفية والعلمية،.. و التي كان لها دور كبير كمرجع خاصة بعد احتراق مكتبة الإسكندرية فى القرن السادس الميلادي.
+ الثابت أن تلك الحقبة من التاريخ القومي متشعبة الأبواب، متعددة الفروع و الأدوار، حافلة بكثير من عجائب الأخبار و نوادر المثل العليا و بدائع الكنوز العلمية و الأدبية، وتحتاج فى بحثها واستجلاء غموضها إلى جماعة وفيرة من الدارسين و الباحثين والمؤرخين، على أن يتضافروا جميعهم تحدوهم الغيرة و الإخلاص و الحماس ليظهروا تلك الحقبة فى الصور المشرفة الناصعة اللائقة بعظمتها و مجدها.
و قد يكون من بواعث نجاح تلك الدراسة وأبحاثها أن يتفرغ كل فريق من الباحثين و الكتاب إلى فرع خاص منها فمنهم من يتولى اتمام دراسة تاريخ زعماء الرهبنة باستفاضة، وعلى سبيل المثال: كالأنبا بولا، والقديس أنطونيوس، والأنبا شنودة رئيس المتوحدين، والقديس باخوميوس، والقديس مكار يوس الكبير،... الخ، على أن تصدر هذه الأبحاث فى سلسلة.كتب ومراجع مترابطة يسهل على أبناء الكنيسة دراستها بسهولة و يسر.
تمهيد :
من هو الراهب المسيحى؟
هو انسان يثقل قلبه بمحبة المسيح..
فيغوص فى أعماقه الجوانية، و يكتشف داخله عريسه وعرسه و يجد لقاءه مع محبوبه مستحيل وسط الناس وصخب المسئوليات المتلاحقة فيختار البعد عن الكل ليرتبط بضابط الكل. لذا يختار السكنى فى الهدوء.. فى الجبال و الصحارى والمغاير، من هنا نجده فى الموضع الجديد، يعطى أسم جديد، وثياب جديدة،
فى بكر يوم جديد، وبعد رقوده أمام باب هيكل الله يقوم آخذا بركة وأذن الجماعة التى يسكن بينها.. ليجد نفسه فى مواجهة باب الهيكل.. فمع أنه محب للاله إلا أنه يرتعد ويرهب الوقوف قدامه.. فيخرج بعد تناول القربان فى الصباح يحمل رهبة لله كل أيام حياته.
لذا يسمونه راهب لأنه يرهب الله: فى نومه ويقظته، فى مشيه ورقوده، فى صمته وحديثه، فى خموله ونشاطه، فى أكله وصومه، فى ضعفه و فى نصرته
وما هى الرهبنة فى المسيحية :
هى ليست رتبة فوق الأيمان المسيحي..
إنما هى تطبيق للأيمان المسيحى، وسلوك نحو الملكوت الأبدي، وهى بذلك عشرة مع يسوع، فتصبح ملامحها خاشعة لسمات العشرة الصادقة ليسوع.
الراهب يعيش الأعتزال، وينكر الأنعزال، ويقدس الجمال
فالرهبنة فى الراهب محب المسيح تضيف إلى روحه المجاهدة جمال
و تعطى لجسده الممات جمال و تكسو مسكنه البسيط بالجمال..
القديس انطونيوس
مقدمة
من واجبنا أن نتساءل عن الثمار التى جناها الفكر الإنساني من حياة الصحراء، وهذه الثمار تبدو لأول وهلة قليلة إذا قيست بالعدد غير المحصى من الذين عاشوا فى البرارى القاحلة، ومما يزيد فى ندرتها الظاهرية أن فطاحل المسيحية أمثال أثناسيوس الرسولي و باسيليوس و ذهبي الفم لم يقضوا بها إلا فترة من الزمن ثم تركوا سكينتها وعاشوا فى صخب هذا العالم.
غير أن من يدقق النظر فى حياة النساك يجد أن الثمار التى جنتها الإنسانية من حياة الصحراء لا تقع تحت حصر. لأن أولئك النساك وإن لم يقدموا لنا كتباً مستفيضة تضارع ما كتبه فلاسفة المسيحية إلا أنهم قدموا لنا حياتهم مثلاً حياً لإيمان راسخ وعقيدة ثابتة و يكفى للتدليل على صحة هذه الحقيقة التاريخية أن أحد هؤلاء النساك كان يملك نسخة واحدة من الكتاب المقدس ؛ فباعها ليوزع ثمنها على الفقراء،
و لما سئل عما فعل قال:
" لقد نفذت الأمر الإلهي القائل (بع كل ما لك و أعطه للفقراء) ".. ولو أن العالم سار على منوالهم وأبدل القول بالعمل لتحول بين عشية أو ضحاها إلى جنة النعيم من جديد، وهذه الحقيقة دليل ساطع على أن الذين اعتزلوا العالم وسكنوا الصحارى قد بلغ السلام أعماق نفوسهم فتذوقوا متعة الخلوة مع الله – و بالتالي كانت حياتهم المثل الفعلي لهذا السلام الذى ينبع من الداخل.
و هذه الصفة هى التى حببت الجماهير فيهم فتقاطروا عليهم، و لم تلبث الصحارى أن تحولت إلى جنات من الخير والبركات تقدست بأنفاس لباس الصليب،
وهكذا وجد الأنبا أنطونى أبو الرهبان نفسه محاطا بجمع غفير قطع عليه الخلوة التى كان ينشدها.
و إن البار الأنبا بولا – مع أنه يعد أول النساك – إلا أن الذى أنار السبيل أمام البشرية لحياة النسك فى عزلة الصحراء هو العظيم الأنبا أنطونى.
تمتاز كنيستنا القبطية الأرثوذكسية عن بقية كنائس العالم بالآتى:
(1) الفلاسفة العالميين الذين عملوا على دفع كل فرية توجه صوب عبادتهم المقدسة دفعا علميا قويا لا يوجد معه أى ثغرة للخصم يستند عليها.
(2) شهدائها الأبطال: الذين استعذبوا الموت حبا فى فاديهم ومخلصهم رب المجد يسوع، عالمين أن:
" الآم الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا " رو 8: 18
(3) نشأة " الدعوة الرهبانية " فيها، فما أن بزغ فجر القرن الرابع الميلادى حتى لمع فى سماء البرية ذلك الكوكب الوضاء: " الأنبا أنطونيوس " الذى اعتزل العالم مؤثرا الوحدة و الإنفراد عاكفا على تقديم العبادة خالصة لله، مجاهدا ضد العالم و الجسد و الشيطان، وبقدر تجاربه وآلامه خرج منتصرا و ظافرا!
لقد رأينا حياة النصرة الحقيقية من خلال جهاده الروحي.. رأينا أساليب محاربة العدو و حيله..
لهذا نجد أن كل الكنائس شرقاً و غرباً تتخذ من القديس أنطونيوس أباً و معلماً ومرشداً.. يقول القديس أثناسيوس:
" إنني أعد مجرد التذكر بأنطونيوس من جليل المنافع لنفسي!.
و الوقوف على صفات أنطونيوس لمن اكمل السبل التى ترشد إلى الفضيلة ".
كم كان تأثير حياة القديس أنطونيوس عظيما فى النفوس! لقد وصل القليل منها لمسامع القديس أغسطينوس فكان كافيا لإنتشاله من سقطته وانتقاله من حياة الشر إلى حظيرة المسيح القدوس!
قال القديس ايرونيموس:
" انه لما ذهب أثناسيوس الرسول إلى رومية أخذ معه موجز سيرة القديس أنطونيوس الذى كان قد ألفه، وأن أناسا كثيرين بعد أن قرأوا الخبر هجروا العالم وترهبنوا ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق