الكتاب العاشر
في روح الضجر أو الملل
مقاومة الضجر بالعمل لا بالهروب!
يقدم لنا القديس يوحنا كاسيان عرضًا عمليًا عن مشكلة "الضجر" الذي يُصيب الراهب في الظهيرة، ويدعوه "شيطان الظهيرة".
علامات الضجر هي:
1-) شعور الراهب أنه ليس في الموضع اللائق به، فإنه كان يمكنه أن يلتحق بدير آخر ينتفع منه، وينفع هو كثيرين.
2-) يصارع مع أفكار النقد اللاذعة ضد الدير ورئاسته وروحانيته، ويسيطر عليه روح الملل.
3-) يشعر بإرهاقٍ جسديٍ شديدٍ مع جوعٍ.
4-) يظن أنه لن يتخلص من الضجر إلا بزيارة أحد الاخوة إليه، إذ يشعر أنه لا يوجد من يهتم به ويُقدره؛ أو باللجوء إلى النوم؛ أو الخروج لتقديم خدمة، خاصة للجنس الآخر.
أما علاج الضجر فيكمن في تدريبين هامين:
التدريب الأول: هو العمل الدائم لإشباع احتياجاته واحتياجات الآخرين، فلا يكون عالة على الغير. وإن كان الدير غير محتاج فإنه يعمل لأجل بنيانه الروحي. وإن كان في عزلة بعيدة جداً ولا يوجد نفع مادي من العمل… يعمل ويحرق ما قد أنتجه.
التدريب الثاني: عدم الخروج من القلاية، حتى للذهاب إلى أب الاعتراف، فإن شيطان الضجر يذل الإنسان الهارب من موضعه ويستعبده. ليصمد الراهب في قلايته كما في معركة روحية، ولا يلقي بسلاحه ويهرب!
يقدم لنا القديس يوحنا كاسيان في شيء من الإطالة اهتمام الرسول بولس بالعمل اليدوي، إذ يقدم نفسه قدوة، كما يوصى بروح الأبوة الحانية مع الحزم الصارم بخصوص التزام المؤمن بالعمل والهروب من التراخي والكسل.
ويحدثنا القديس أوغريس عن الضجر، قائلاً:
[في وقت التجربة لا تغادر قلايتك، منتحلاً لنفسك أعذارًا تبدو لك أنها صحيحة، خاصة إن هاجمك شيطان الضجر، الذي هو بالحقيقة أشر جميع الشياطين، لكنه الوحيد من بينهم الذي يقدم للنفس خبرة.
إذا ما هربت أو تحاشيت المعركة، يظل عقلك عديم الخبرة، جبانًا، يهرب بسهولة[2].]
ويتحدث عن شيطان الظهيرة، قائلاً:
[تقف الشياطين التي تثير النفس بإلحاح وتُزعجها حتى الموت، أما الشياطين التي تثير حركة شهوة الجسد فتتقهقر بأكثر سهولة من الأولى.
أضف إلى هذا أن بعض الشياطين تشبه الشمس المشرقة أو التي تغرب، تلمس جانبًا واحدًا من النفس أو آخر، أما "شيطان الظهيرة" فقد اعتاد أن يُغلّف النفس كلها ويُغرق الذهن[3].]
أخيرًا فإن هذه الحرب ليست خاصة بالرهبان وحدهم بل هي قائمة ضد كل نفس تود أن تتقدس للرب وأن تفعم بالتأمل في أسراره والتمتع بشركة الطبيعة الإلهية.الرب قادر أن يهبنا روح الجهاد الحيّ.
القمص تادرس يعقوب ملطي
الفصل الأول
كيف أن سادس صراع لنا موجه ضد روح الضجر، وما هي صفته
أما سادس صراع لنا فهو موجه ضد ما يسميه اليونانيون بالضجر، أو ما يصح لنا ان ندعوه بالملل أو تعب القلب، وهو وثيق الصلة بالاكتئاب. يلاحق النساك بوجه خاص، وهو عدو خطر كثير التردد على سكان الصحراء. لا يزعج الراهب عادة إلا في الساعة السادسة، مثل الحُمى التي يقع المرء فريسة لنوباتها، وما تسببه من ارتفاع شديد في حرارة المريض، خلال ساعات معينة منتظمة. وأخيرًا فثمة شيوخ يُعلنون أن هذه الروح هي "شيطان الظهيرة" الذي ورد ذكره في المزمور التسعين.
الفصل الثاني
وصف الضجر، والطريقة التي يتسلل بها إلى قلب الراهب،
والضرر الذي يلحق بالنفس
حين يستولي هذا على نفس تعيسة يسفر عنه كراهية للمكان، واشمئزاز من القلاية، واستصغار واحتقار للاخوة الذين يعيشون معه أو بالقرب منه، كما لو كانوا متهاونين أو غير حارين بالروح.
الضجر يجعل الإنسان أيضًا كسولاً متراخيًا في كل ضروب العمل الذي يلزم إنجازه حيث يقطن وينام، فلا يحتمل البقاء في قلايته، ولا يهتم بالمطالعة.
كما يجعله يُكثر من الشكوى، فيظن أنه لا يستطيع أن يعمل حسنًا مادام مقيمًا هناك، فيتنهد ويتأوه لأنه لا يستطيع الإثمار مادام منضمًا إلى هذه الجماعة. ويتبرم من المكان الذي فيه، متحسرًا أنه لا يجتني منه أيّ نفع روحي، ويُظن أنه في استطاعته أن يقود الآخرين ويسدي النفع إلى عدد كبير من الناس، لأجل تثقيفهم أو إفادتهم بتعاليمه وإرشاداته.
يبالغ في إطرائه على الأديرة المختلفة والبعيدة، ويصف مثل هذه الأماكن بأنها أكثر نفعًا، وأشد ملاءمة للخلاص. إلى جانب ذلك يمتدح العلاقة بين الاخوة هناك وينعتها بالعذوبة وحرارة الروح. ومن ناحية أخرى يزعم أن كل شيء حوله جاف، وأنه ليس ثمة ما يعمل على تثقيف الاخوة المقيمين معه، بل أن طعام البدن ذاته لا يمكن الحصول عليه إلا بكل مشقة.
أخيرًا يتصور أن أحواله لن تتحسن أبدًا مادام مقيمًا في ذلك المكان، إلا إذا ترك قلايته وابتعد عنها بأسرع ما استطاع (إذ يعتقد أنه إذا بقي فيها يصير ميتًا لا محالة).
بعد ذلك في الساعة الخامسة أو السادسة يحل به تعب جسماني مع اشتياق للطعام، فيتخيل أنه مرهق كمن جاء من رحلة طويلة أو من قام بعملٍ شاقٍ مضنٍ، أو كمن مارس صومًا انقطاعيًا لمدة يومين أو ثلاثة.
إلى جانب هذا يتطلع حواليه هنا وهناك، ويتحسر أنه ليس أحد من اخوته من يأتي لرؤيته. ولا يكف عن دخول قلايته والخروج منها، متطلعًا إلى الشمس بين الفينة والفينة، كما لو كانت متباطئة جدًا في الغروب. ومن ثمَّ فإن ضربًا من الارتباك الذي لا مبرر له يستبد بعقله، كقتامٍ دامسٍ يشلّه تمامًا عن كل الإنجازات الروحية، الأمر الذي يجعله يتخيل أنه لا نجاة له من هذه النوبة العارمة إلا بزيارة أحد الاخوة أو اللجوء إلى النوم وحده.
ثم يوحي إليه هذا المرض أن من واجبه أن يكون مجاملاً ودودًا نحو الاخوة، وأن يزور المرضى البعيدين عنه والذين عن قرب.
أيضًا يتحدث عن بعض المسئوليات تبدو له أنها واجبات دينية يلتزم بها، كأن يستفسر عن أحوال أقربائه بالجسد، وأن يذهب لزيارتهم من حين إلى آخر. ويرى أن من أعمال البرّ حقًا أن يكثر من زيارة تلك المرأة التقية التي كرَّست حياتها لخدمة الرب، والمحرومة من كل عون أو قريب. وأنه من أروع الأعمال أن يسد احتياجات مثل هذه المرأة التي أهملها أهلها واستصغروا شأنها. وأن من واجباته الدينية أن يكّرس وقته لهذه الأمور بدلاً من أن يظل مقيمًا في قلايته دون نفع أو إفادة.
الفصل الثالث
الطرق المختلفة التي يقهر بها الضجر راهبًا
حين ترتبك النفس التعسة بمثل هذه الحيَل من العدو، يستبد بها الانزعاج، حتى إذا ما أنهكها الضجر كهدفٍ أُطلق عليه قذيفة، فتشعر أنها إما أن تتعلم أن تستغرق في النوم، أو أن تتعود أن تخرج من حبس القلاية، على أن تنشد السلوى ضد هذه الهجمات بزيارة أحد الاخوة، الأمر الذي يزيد من ضعفها بهذا العلاج الوقتي. ذلك لأن العدو يضاعف هجماته ويشتد ضد من لاذ بالفرار من القتال، دون أن ينشد السلامة في الصمود والانتصار. وشيئًا فشيئًا يبتعد الإنسان تمامًا عن قلايته، ويبدأ في نسيان هدف نذره، وهو أن يقصر تفكيره وتأملاته على ذلك النقاء الإلهي الذي يفوق جميع الأشياء، والذي لا يمكن إحرازه إلا بالصمت والبقاء الدائم في القلاية والتأمل. هكذا يصبح جندي المسيح هاربًا من خدمة سيده ومن ميدان جهاده، ويشغل نفسه بالأمور الدنيوية دون إرضاء الرب الذي سبق أن كرس له نفسه.
الفصل الرابع
يعطل الضجر العقل عن كل تفكير في الفضائل
عبّر داود عن جميع متاعب هذا المرض أجمل تعبير في آية واحدة، حيث يقول: "نعست نفسي من التعب"، يقصد بذلك الضجر. وهو على حق إذ يقول أن نفسه لا بدنه، هي التي نعست، إذ الواقع أن النفس التي تصيبها حربة الضجر لابد أن تنام وتغفو عن كل تأمل واستغراق في الحواس الروحية.
الفصل الخامس
نوبة الضجر ثنائية
ينبغي على المجاهد المسيحي الأمين الذي يبغي أن يجاهد قانونيًا في قوائم الكمال أن يُسارع إلى طرد هذا المرض من خفايا نفسه، وأن يُقاتل روح الضجر هذه، الممعنة في الشر، في كلا الاتجاهين، لكي لا يقع صريعًا بحربة النوم، أو يُستبعد من حياة النسك بالدير، حتى إن كان بعذرٍ أو بذريعةٍ من التقوى، فيرحل كالآبق الهارب.
الفصل السادس
مدى ما يسفر عن الضجر من أضرارٍ
حين يبدأ الضجر في هزيمة أي شخص بأي قسط، وعلى أي نحو، إما أن يدفعه للبقاء في قلايته عاطلاً كسولاً، دون تحقيق أيّ نجاح روحي، أو يبعده عنها، ويجعله قلقًا شاردًا، ليس له استقرار، متراخيًا في كل ضروب العمل، ودوَّارًا لا يكف عن الذهاب إلى قلايات اخوته، والتردد على مختلف الأديرة.
يصير غير مهتم إلا بأن يتلمس الأعذار لكي ينتعش بطعامٍ أو شرابٍ، ذلك لأن الكسلان العاطل لا يستطيع التفكير في أيّ شيء سوى الطعام والملذات.
إنه يحاول أن يحظى بصحبة رجل أو امرأة يكون أو تكون مثله في التبلد وعدم المبالاة، فيضّيع وقته في شئونه ومشاغله. ومن ثمَّ شيئًا فشيئًا يقع في حبائل التزامات خطيرة لا يستطيع الفكاك منها، وكأن ثعبانًا قد التف حوله، وشل حركته، فلم يعد في مقدوره العودة إلى كمال نذره السابق.
الفصل السابع
أحاديث للرسول تتعلق بروح الضجر
إن الرسول المبارك، كطبيب حقيقي للروح، إما عن طريق رؤيته لهذا المرض الذي انبعث من روح الضجر، وتسلل فعلاً (في أيامه)، أو عن طريق إدراكه مسبقًا بواسطة إلهام الروح القدس أن هذا المرض سيظهر بين الرهبان، أظهر بوضوح ما وصفه من أدوية شافية في إرشاداته.
ففي رسالته إلى أهل تسالونيكي، في مبدأ الأمر كطبيبٍ بارعٍ قدم لمرضاه دواء كلماته الرقيقة الملطفة، مبتدئًا بالمحبة وممتدحًا إياها في تلك النقطة. فإن هذا الجرح المميت إذا عولج بدواء لطيف مقبول يتخلص الإنسان من حدة قروحه، ويسهل أن يحتمل علاجًا أشد وأقسى. يقول: "وأما المحبة الأخوية فلا حاجة لكم أن أكتب إليكم عنه، لأنكم أنفسكم متعلمون من الله أن يحب بعضكم بعضًا، فإنكم تفعلون ذلك أيضًا لجميع الاخوة الذين في مكدونية كلها" (1تس9: 4،10).
ابتدأ أولاً باستخدام الثناء الملطف، وجعل آذانهم خاضعة ومستعدة لعلاج الكلمات الشافية. ثم استطرد قائلاً: "إنما أطلب إليكم أيها الاخوة أن تزدادوا أكثر" وهكذا يبالغ في الترفق بهم بعبارات لطيفة طيبة، خشية أن يجدهم غير مستعدين لتقبُّل علاجهم التام.
ما الداعي أيها الرسول أن تطلب منهم أن يزدادوا في المحبة، التي تكلمت عنها آنفًا: "وأما المحبة الأخوية فلا حاجة لكم أن أكتب إليكم عنها"؟… وما الذي يُلزمك أن تقول لهم: "وإنما أطلب إليكم أن تزدادوا أكثر" ما داموا ليسوا في حاجة للكتابة إليهم عن هذا الموضع على الإطلاق؟ بخاصة أنك تضيف علة عدم حاجتهم قائلاً: "لأنكم أنفسكم متعلمون من الله أن يحب بعضكم بعضًا"، ثم تضيف شيئًا ثالثًا أكثر أهمية وهو أنهم ليسوا متعلمين من الله فقط، بل إنهم أيضًا ينفذون بالفعل ما قد تعلموه… "لأنكم تفعلون هذا". يقول لا لواحد أو اثنين بل "لجميع الاخوة"… "في مكدونية كلها"… حبذا لو أخبرتنا إذن لماذا تعمدت هذا الاستهلال؟ مرة أخرى يستطرد قائلاً: "وإنما أطلب إليكم أيها الاخوة أن تزدادوا أكثر".
أخيرًا يُصرح في تردد وتثاقل بما كان يرمي إليه من قبل قائلاً: "وأن تحرصوا على أن تكونوا هادئين"، هكذا كشف عن الغرض الأول.
ثم يضيف غرضًا آخر قائلاً: "وتُمارسوا أموركم الخاصة".
ثم يضيف غرضًا ثالثًا: "وتشتغلوا بأيدكم أنتم كما أوصيناكم"،
وغرضًا رابعًا: "وتسلكوا بلياقة عند الذين هم من خارج"،
وغرضًا خامسًا: "ولا تكون لكم حاجة إلى أحد".
الواقع أنه في استطاعتنا أن نقدم عذرًا لعرض هذه المقدمات وإرجاء التفوه بما كان يملأ ذهنه: "وإن تحرصوا على أن تكونوا هادئين"، بمعنى أن تقيموا في قلاياتكم ولا تنزعجوا بالإشاعات التي تنبعث عادة من رغبات وثرثرة الكسالى، وهكذا تتسببون أنتم أنفسكم في إزعاج الآخرين...
كي "تمارسوا أموركم الخاصة"؛ ينبغي ألا تكونوا فضوليين تستطلعون شئون العالم، وتدسّون أنوفكم في شئون الآخرين وحياتهم، فتبددون قواكم لا في اصلاح أنفسكم ونشد الفضيلة، إنما في انتقاص قدر اخوتكم.
"وتشتغلوا بأيديكم أنتم كما أوصيناكم"، ليضمن بذلك ألا يفعلوا ما سبق أن حذرهم منه، بمعنى أن من واجبهم ألا يكونوا قلقين ولا فضوليين يدسون أنوفهم في شئون غيرهم من الناس، أو أن يسلكوا بغير لياقة عند الذين هم من خارج، أو أن تكون لهم حاجة إلى أحد.
الآن يضيف قائلاً: "وتشتغلوا بأيديكم أنتم كما أوصيناكم"، ذلك لأنه أوضح في جلاء أن وقت الفراغ هو علّة حدوث تلك الأشياء التي وجّه اللوم بخصوصها آنفًا. فما من أحد يمكن أن يكون قلقًا أو فضوليًا إلا إذا كان غير راغبٍ في العكوف على عمله الخاص.
يضيف أيضًا عاقبة وخيمة رابعة تنبعث هي الأخرى من هذا الفراغ، إذ ينبغي ألا يسلكوا بغير لياقة، حين يقول: "وتسلكوا بلياقة عند الذين هم من الخارج". الواقع إنه لا يستطيع أن يسلك بلياقة، حتى بين الذين من هذا العالم، من لا يرضى أن يتمسك بالعزلة في قلايته، وبعمل يديه. إذ ما من شك أنه سيسلك بغير لياقة حين يبحث عما يحتاجه من الطعام، ويلجأ إلى النفاق، والجري وراء التعرف على الأخبار، وإثارة الإشاعات، وتلمس الفرص للثرثرة، ورواية القصص التي قد تهيئ له دخول منازل الآخرين والترحيب به فيها.
"ولا تكون لكم حاجة إلى أحد"... إنه متأكد أن من لا يهتم بأن يوفر لنفسه قوت يومه عاملاً بيديه في هدوء وشعور بواجبه... ينظر إلى مواهب الآخرين وخبراتهم بعين الحسد… ها أنت ترى أية ملابسات تنجم عن مرض البطالة والفراغ ومدى خطورتها ومهانتها معًا.
أخيرًا فإن هؤلاء الذين استخدم معهم في رسالته الأولى أرق العبارات عمد في رسالته الثانية إلى علاجهم بوسائل أشد صرامة وقسوة، إذ لم ينتفعوا من علاجه اللطيف المترفق. بدلاً من أن يستخدم عبارة رقيقة مثل: "أطلب إليكم أيها الاخوة" قال: "ثم نوصيكم أيها الاخوة باسم ربنا يسوع المسيح أن تتجنبوا كل أخ يسلك بلا ترتيب" (2تس6: 3). هناك يطلب، وهنا يوصي ويستحلف. هناك نجد ترفقًا إذ يحث، وهنا نجد صرامة إذ يعترض ويهدد.
"نوصيكم أيها الاخوة"، لأننا عندما "طلبنا منكم" في بداية الأمر سخرتم بنا ولم تنصتوا، فالآن لا أقل من أن تطيعوا تهديدنا. إنه يلقي نوعًا من الرعب على هذه الوصية الآمرة مع استخدام اسم ربنا يسوع المسيح، مُحذرًا من غضبه، خشية أن يسخروا من كلامه مرة أخرى ظانين أنه مجرد قول بشري، ويتوهمون أنه قليل الأهمية. ومن ثمَّ فكطبيب مختبر ماهر يحاول العلاج بإجراء جراحة بسلاح روحي قائلاً: "أن تتجنبوا كل أخ يسلك بلا ترتيب وليس حسب التعليم الذي أخذه منا" (2تس6: 3). هكذا يأمرهم أن يتجنبوا أولئك الذين لا يُكرسون وقتًا للعمل، وبترهم كأعضاء من البدن شوّهتها قروح البطالة والفراغ، خشية أن ينتقل مرض التراخي والكسل تدريجيًا إلى الأجزاء السليمة من الجسم، مثل بعض الأمراض المعدية المميتة.
حين يتكلم الرسول عن أولئك الذين لا يعملون بأيديهم، ويأكلون خبزهم في هدوء، يحثنا على تجنبهم. استمع إلى ما يدفعهم به من ضروب الملامة والتوبيخ عند استهلاله. فهو أولاً: يدعوهم "بلا ترتيب"، وأيضًا: "لا يسلكون حسب التعليم". وبعبارة أخرى يصفهم بالعناد لأنهم لا يسلكون وفق توجيهه، وبعدم اللياقة لأنهم لا يلتزمون بالأوقات اللائقة المضبوطة في خروجهم وزياراتهم وأحاديثهم. لأن الشخص غير المرتب يتعرض بالتأكيد لكل هذه الأخطاء.
"وليس حسب التعليم الذي أخذوه منا"، بهذا يوبخهم على أنهم على نحوٍ ما متمردون، ومستهزئون، قد استخفوا بالتعليم الذي أخذوه منه ولم يحرصوا عليه، ولم يتبعوا ما تذكروا أنه قد علمهم به لا باللفظ فحسب بل ومارسه بالفعل أيضًا... "إذ أنتم تعرفون كيف يجب أن يُتمثَّل بنا" (2تس7: 3).
يحشد الرسول كومة هائلة من التقريع واللوم حين يؤكد أنهم لم يراعوا ما لا يزال عالقًا بذاكرتهم. والذين تعلموه ليس فقط بالإرشاد الشفوي، بل تسلموه أيضًا في شخصه كقدوة في العمل لابد أن تُحتذى.
الفصل الثامن
الإنسان الذي لا يشتغل بيديه لابد أن يصبح قلقًا
"لأننا لم نكن قلقين بينكم"، أراد الرسول التدليل بأنه بممارسته العمل لم يكن قلقًا بينهم، مظهرًا تمامًا أن الذين لا يشتغلون يكونون دائمًا قلقين بسبب رذيلة الكسل...
"ولا أكلنا خبزًا مجانًا من أحد"... هكذا يتقدم رسول الأمم في كل مرة خطوة جديدة في التوبيخ. فكارز الإنجيل يقول إنه لم يأكل خبزًا مجانًا من أحد، مع أنه يعلم أن الرب أوصى "أن الذين ينادون بالإنجيل، من الإنجيل يعيشون" (1كو14: 9)، وأيضًا "الفاعل مستحق أجرته" (مت10: 110).
مادام كارز الإنجيل وهو يقوم بعملٍ على هذا القدر من السمو والروحانية لم يرد أن يستغل وصية الرب بأن يأكل خبزه مجانًا، كم بالأحرى يعوزنا بالحق ليس فقط أن نكرز بالكلمة بل وإلى جانب هذا لا نداوي أية نفوس سوى نفوسنا (بالاهتمام بالعمل بغير كسل).
كيف تجرؤ أن تأكل خبزك مجانًا في حين أن "الإناء المختار"، وهو مقيد باهتمامه بالإنجيل وعمله في الكرازة، لم يجسر أن يأكل خبزه دون أن يشتغل بيديه...، فيقول: "بل كنا نشتغل بتعب وكدّّ ليلاً ونهارًا لكي لا نثقل على أحد منكم" (2تس8: 3)؟!
هكذا فإنه حتى هذه النقطة يتمنع عن التوبيخ ولا يُكثر منه، لأنه لم يقتصر على أن يقول: "ولو أكلنا خبزنا مجانًا من أحد منكم"، ذلك لأنه كان من المحتمل أن يظن البعض أنه كان يتزود من دخلٍ خاصٍ به ومن مالٍ ادخره، أو عن طريق أشخاصٍ آخرين، دون الاستعانة بعطاياهم أو بما يجمعون. فهو يقول: "لكن كنا نشتغل بتعب وكدّ ليلاً ونهارًا". يعني أنه كان يتزود من شغل يديه. ويستطرد الرسول قائلاً: إنه لم يفعل ذلك بدافعٍ من الرغبة في الاستمتاع بضرب من الرياضة البدنية، بل تحت ضغط من الحاجة إلى التزود بالطعام. وأن هذا كان يكلفه الكثير من الكدّ والتعب، ذلك لأنه ليس طوال النهار بأكمله، بل وأيضًا أثناء الليل، وهو الوقت المكرس لراحة البدن، يواصل العمل بيديه ليوفر لنفسه الطعام.
الفصل التاسع
ليس الرسول وحده بل والاثنان
اللذان معه كانوا جميعهم يشتغلون بأيديهم
يشهد أنه ليس وحده الذي عاش على هذا النمط بينهم، لئلا يظن الناس إذا اقتصر هذا النمط من العيش على الرسول وحده، أنه أمر غير هام أو ليس عامًا. ومن ثمَّ فهو يعلن أن جميع الذين عُينوا لخدمة الإنجيل مثل سلوانس وتيموثاوس، الذين شاركوا في كتابة هذه، كانوا يعيشون مثله تمامًا. إذ يقول "لكي لا أثقل على أحد منكم" يلحق بهم قدرًا كبيرًا من الخزي والعار، ذلك لأنه إذا كان ذلك الذي كرز بالإنجيل ورفعه عاليًا بأقواله وأعماله العظيمة، لم يجسر أن يأكل خبزه مجانًا، لئلا يثقل على أحد، فكيف يستطيع أولئك الذين يتناولونه كل يوم في الكسل والبطالة ألا يشعروا أنهم عبء ثقيل على الآخرين.
الفصل العاشر
اشتغل الرسول بيديه كي يضع لنا قدوة في العمل
يبسط الرسول بطريقة غير مخفية السبب الذي من أجله أسند إلى نفسه هذا العمل قائلاً: "ليس أن لا سلطان لنا بل لكي نعطيكم أنفسنا قدرة حتى تتمثلوا بنا". فإذا نسيتم دون قصد كلماتنا التي طالما وقعت على مسامعكم، لا تنسوا قدوة معيشتي بينكم التي كانت مكشوفة أمام بصائركم. هنا يوبخهم بقدر غير قليل، حيث مارس عمله في كدّ وتعب خلال النهار والليل، لا لسبب إلا لكي يقدم لهم قدوة حسنة، على الرغم من أنه لم يكن مُلزمًا بذلك. ثم يستطرد قائلاً بأنه ما من شك أنه على الرغم من أن لدينا السلطان لكنني أخشى أن يتحول ما أفعله أنا شرعًا وحقًا إلى مثال سيئ في البطالة الوخيمة العواقب عند الآخرين. لهذا آثرت عند كرازتي بالإنجيل أن أقوت نفسي بعمل يدي، كي أقدم طريق الكمال أمامكم أنتم الذين تريدون السير في طريق الفضيلة ولكي أضع بعملي قدوة للحياة الطيبة.
الفصل الحادي عشر
وعَظ الناس وعلَّمهم أن يشتغلوا
ليس بالاقتداء فحسب بل وبالكلام أيضًا
لكن خشية أن يتبادر إلى الذهن أنه حين كان يعمل في صمت ويحاول تعليمهم عن طريق الاقتداء لم يحذرهم ويرشدهم إلى قواعد السلوك المستقيم، استطرد قائلاً: "فإننا أيضًا حين كنا عندكم أوصيناكم بهذا أنه إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضًا".
مع ذلك فهو يبرز كسلهم للعيان أكثر وضوحًا، لأنهم وهم يعلمون أنه كمعلم صالح كان يشتغل بيديه من أجل تعليمهم لكي يحسن إرشادهم وتهذيبهم، فإنهم كانوا يخجلون من الاقتداء به. وهو أيضًا يثبتنا في الكد والاهتمام بقوله إنه لم يعطهم هذا كمثال يقتدون به، حال وجوده فحسب، بل ونادى به على الدوام بالألفاظ قائلاً: أنه إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضًا.
الفصل الثاني عشر
"إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضًا"
الآن لا يقدم إليهم نصيحة معلم أو طبيب، بل يوجه حكمًا قضائيًا صارمًا. ضدهم كمستهزئين، مستعيدًا سلطته الرسولية التي صرح بها حين كتب إلى أهل كورنثوس منذرًا إياهم، أن الرب قد منحها له، حين أوصى أولئك الذين سقطوا في الخطية، أن يسارعوا إلى إصلاح حياتهم قبل مجيئه قائلاً: "ولكن أطلب أن لا أتجاسر وأنا حاضر بالسلطة التي مُنحت لي عليكم" وأيضًا: "فإني وإن افتخرت شيئًا أكثر بسلطاننا الذي أعطانا إياه الرب لبنيانكم لا لهدمكم لا أخجل" (2كو2: 10،8). وهو إذ يعاقبهم لا بسيف دنيوي بل بسلطان الروح القدس، مُحرمًا عليهم مشتهيات هذا العالم، حتى إذا لم يفكروا إلا قليلاً في عقاب الموت القادم، وظلوا سائرين في عنادهم إيثارًا للحياة الناعمة، فإنهم في آخر المطاف، تحت ضغط مطالب الطبيعة والفزع من الموت المفاجئ، يضطرون لإطاعة هذه الوصية النافعة.
الفصل الثالث عشر
"لقد سمعنا أن بعضًا منكم يسلكون بغير ترتيب"
بعد كل هذه الصرامة البادية في نص الإنجيل، يوضح الرسول السبب في غير جفاء السبب الذي من أجله بسط كل هذه الأمور قائلاً: "لأننا نسمع أن قومًا يسلكون بينكم بلا ترتيب، لا يشتغلون شيئًا بل هم فضوليون"… وهو لا يقنع بأن يقول عن أولئك الذين لا يقبلون العمل بكل قلوبهم أنهم ضحايا آفة واحدة، إنما يصفهم بأنهم "يسلكون بغير ترتيب" وأنهم "لا يسلكون حسب التعاليم التي تسلموها منه"، ويؤكد إلى جانب ذلك أنهم "قلقون" وأنهم "يأكلون خبزهم مجّانًا". ثم يقول هنا: "لأننا نسمع أن قومًا يسلكون بينكم بلا ترتيب" وفي الحال يشفع هذا بسقطة أخرى، هي أصل هذا القلق فيقول: "لا يشتغلون شيئًا قط" ثم يضيف آفة ثالثة تبرز من هذه الأخيرة كأنها البرعم: "بل هم فضوليون".
الفصل الرابع عشر
العمل اليدوي يقي المرء من سقطات كثيرة
هكذا لا يضيع الرسول وقتًا إذ سرعان ما يستخدم علاجًا ناجحًا لهذه السقطات الكثيرة، متغاضيًا عن سلطانه الرسولي الذي استخدمه قبل ذلك بقليل ليتصرف مرة أخرى في رفق الوالد الطيب أو الطبيب العطوف، كما لو كانوا أبناءه أو مرضاه. يستخدم معهم أدوية نصائحه الشافية في علاجهم قائلاً: "فمثل هؤلاء نوصيهم ونعظهم بربنا يسوع المسيح أن يشتغلوا بهدوء ويأكلوا خبز أنفسهم". إنه يعالج علّة جميع هذه البلايا التي تصدر عن البطالة والكسل كطبيب موفور الخبرة بوصية نافعة فريدة للعمل، لعلمه أن جميع الأعراض المَرَضية الرديئة الأخرى تنبعث كما من منبعٍ واحدٍ لابد ستختفي سريعًا حالما يزول سبب المرض الأصلي.
الفصل الخامس عشر
ينبغي ألا يُحرم حتى الكسالى والمهملون من العطف
على الرغم من هذا، فهو كطبيب يقظ بعيد النظر لا يهتم فقط بشفاء جراحات المرضى، لكنه أيضًا يمد الأصحاء بإرشادات نافعة للمحافظة دائمًا على صحتهم فيقول: "ولكن لا تكفوا عن عمل ما هو حسن". أنتم الذين تقتدون بنا في عملنا وسلوكنا، لا تجارونهم في خمولهم وتكاسلهم "لا تكفوا عن عمل ما هو حسن"، بمعنى أن تعاملوهم بالرفق إذا حدث أن قصّروا في مراعاة ما قلناه. وإذ كان قد عامل أولئك الضعفاء بصرامة، فإنه يخشى لئلا إذا أوهنهم الكسل يسيطر عليهم القلق والفضول، ينصح الأصحاء ألا يحرموهم من العطف الذي أوصى الرب أن نضفيه على الأخيار والأشرار. حتى إن انحرف بعض الناس الأردياء عن التعاليم القديمة، ألا يكفوا عن فعل الخير لهم ونصحهم بعبارات التشجيع والتقريع، إلى جانب ما ألفه الناس من رفق ولطف.
الفصل السادس عشر
ينبغي أن نوجه اللوم لمن يخطئون بدافع من الحب لا البغض
يعود مرة أخرى، بعدما شجع هذا السلوك الرقيق خشي لئلا يلجأ البعض إلى الاستهزاء بوصاياه وعدم إطاعتها، عاد إلى الاعتصام بالصرامة فيقول: "ولكن إن كان أحد لا يطيع كلامنا بالرسالة فسِموا هذا ولا تخالطوه لكي يخجل" وفي إنذاره لهم بما ينبغي عليهم أن يراعوه بدافع من اهتمامهم به ولصالح الجميع، والاهتمام الواجب أن يحرصوا على إبدائه نحو الوصايا الرسولية.
سرعان ما يمزج الإنذار بشفقة الوالد الممعن في السماحة والتسامح، ويعلمهم كما لو كانوا أبناء له ما ينبغي أن يغرسوه نحو الآنف ذكرهم من ميل أخوي، بدافع من المحبة. فيقول: "ولكن لا تحسبوه كعدو بل أنذروه كأخ". هكذا يمزج صرامة القاضي بعطف الوالد. ويخفف وطأة الحكم الرسولي الشديد بقدر كبير من اللطف والرفق. ذلك لأنه يأمرهم أن يلاحظوا ذلك مع الذي يستخف بوصاياه ولا يطيعها فيطلب منهم ألا يخالطوه، لكنه يطلب إليهم ألا يفعلوا ذلك بدافع من شعور الكراهية غير القويم، بل بحافز من العطف الأخوي، والتفكير في إصلاحه، فيقول: "لا تخالطوه لكي يخجل". ومن ثمَّ فإنه حتى وإن لم ينصلح بتوجيهاتي الرقيقة، ينصلح أخيرًا بأن يخجل بفصله علانية منكم جميعًا. بذلك يحتمل أن يعود يومًا ما إلى طريق الخلاص.
الفصل السابع عشر
فقرات شتى يُعلن فيها الرسول أنه يجب علينا أن نعمل،
أو يُظهر فيها أنه هو بنفسه كان يقوم بالعمل
هكذا يوصي أيضًا في رسالته إلى أهل أفسس، بموضوع هذا العمل فيقول: "لا يسرق السارق فيما بعد، بل بالحري يتعب عاملاً الصالح بيديه، ليكون له أن يعطي ما له احتياج" (أف28: 4). وفي سفر أعمال الرسل أيضًا نجد أنه لم يعلم هذا فحسب لكنه مارسه بنفسه. لأنه حين قَدم إلى كورنثوس لم يسمح لنفسه بالإقامة في أيّ مكان سوى مع أكيلا وبريسكلا، لأنهما كانا يمارسان ذات الحرفة التي اعتاد هو بنفسه على ممارستها. إذ نقرأ ما يلي: "وبعد هذا مضى بولس من أثينا وجاء إلى كورنثوس، فوجد يهوديًا اسمه أكيلا بنطي الجنس. كان قد جاء حديثُا من إيطاليا وبريسكلا امرأته. فجاء إليهما، وبكونه من صناعتهما أقام عندهما. وكان يعمل لأنهما كانا في صناعتهما خيامين" (أع1: 18-3).
الفصل الثامن عشر
كان الرسول يشتغل بالقدر الذي
يكفيه ويكفي الذين كانوا معه
بعد ذلك ذهب إلى ميليتس، ومن هناك أرسل إلى أفسس، واستدعى إليه قسوس كنيسة أفسس، وأوضح لهم كيف ينبغي أن يدبروا كنيسة الله في غيابه قائلاً: "فضة أو ذهب أو لباس أحد لم أشتهِ، أنتم تعلمون أن حاجاتي وحاجات الذين معي خدمتها هاتان اليدان، في كل شيء أريتكم أنه هكذا ينبغي أنكم تتعبون وتعضدون الضعفاء، متذكرين كلمات الرب يسوع أنه قال مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ".
ترك لنا قدوة عظيمة في منهج حياته، إذ يشهد بأنه لم يكتفِ بأن يشتغل كي يسد احتياجاته فحسب، لكن أيضًا ما يكفي لسد احتياجات الذين كانوا معه: أعني أولئك الذين طغت عليهم الواجبات الضرورية، فلم تتح لهم الفرصة لأن يوفروا لأنفسهم خبزهم بعمل أيديهم.
وكما ذكَّر أهل تسالونيكي أنه سبق أن اشتغل ليقدم لهم مثالاً يقتدون به، هكذا يستخدم هنا أيضًا شيئًا من ذات النوع حين يقول: "في كل شيء أريتكم أنه هكذا ينبغي أنكم تتعبون وتعضدون الضعفاء"، أي سواء الضعف في العقل أو البدن، إذ ينبغي ان نجتهد لسد حاجياتهم، لا من فيض ما نختزن، أو مما ندخره من مال، أو ما يقدمه شخص آخر مما يمتلكه، إنما مما نحصل عليه نحن من عملنا الخاص وكّد أيدينا.
الفصل التاسع عشر
كيف ينبغي أن نفهم الكلمات:
"مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ"
يذكر أن هذه هي وصية من الرب قائلاً: "متذكرين كلمات الرب يسوع أنه قال مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ" (أع33: 20-35)، بمعنى أن المعطي في سخائه أكثر غبطة من الآخذ احتياجاته، حيث تكون العطية غير مستمدة من المال الذي احتفظ به عن طريق عدم الإيمان، أو من المكتنز عن طريق البخل والجشع، إنما تأتي ثمرًا لكدنا وعملنا الأمين. هكذا "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ، لأنه بينما يُشارك المعطي فقر الآخذ، فإنه يكّد بإعالته باهتمام مفعم بالتقوى، مشتغلاُ بيديه لا كي يسد حاجته فحسب بل وأيضًا كي يعطي غيره من المحتاجين. من ثمَّ يحظى بنعمة مزدوجة، إذ بتخليه عن كل ما لديه يحرز بذلك علي كمال التجرد وإنكار الذات اللذين للمسيح، لكنه بعمله وفكره يبرز سخاء الأغنياء. هكذا يكرم الله بعمله الأمين، ويقتطف لنفسه ثمار بره، بينما ثمة شخص آخر قد أوهنه التراخي والكسل المتبلد، يدلل لنفسه قول الرسول أنه لا يستحق الطعام، كأنه بالتكاسل يتحدى الوصية، وبذلك لا ينجو من وزر الخطية والعناد.
الفصل العشرون
أخ كسول حاول أن يغري آخرين بترك الدير
نعرف أخًا، لو كان في ذِكر اسمه ما يفيد لذكرناه، على الرغم من بقائه في الدير والتزامه بتسليم وكيل الدير يوميًا قدرًا معينًا من الإنتاج، فإنه خشية أن يُساق إلى مزيد من هذا الإنتاج، أو أن يلحقه العار من مقارنته بأخ آخر يتفوق عليه في عمله وغيرته، كان لدى رؤيته أي شخص انضم للدير حديثًا، وراح يتفانى في العمل بدافع من حرارة إيمانه ليزيد القدر المبيع من إنتاجه، يغريه في الخفاء بالإقلال من إنتاجه. فإذا فشل في مقصده، عمد على إغوائه بالنصيحة الفاسدة والهمسات المشبوهة كي يهجر الدير. ولكي يسهل عليه التخلص منه يزعم أنه هو أيضًا سيترك الدير بغير رجعة بسبب ما لاقاه فيه من تعسف وعنت، وأنه لم يعطله عن ذلك سوى حاجته إلى أخ مثله يرافقه في رحلته. وحالما ينال موافقته بتملقه إياه وطعنه الخفي في الدير وإدارته يقوم بترتيب وتحديد وقتٍ معينٍ لهجر الدير، وكذلك المكان الذي لا بد أن يسبقه إليه وينتظره فيه، ثم يتركه هناك وحيدًا، حيث ينكشف أمره، ويلحقه العار لإقدامه على هذا القرار، فلا يجسر على العودة إلى الدير الذي هرب منه، والذي تخلف عنه من كان علة بليته.
يكفي أن أسوق هذا المثال الوحيد لهذا الطراز من الرجال لكي يأخذ المبتدئون حذرهم، ولتوضيح ما يسفر عن الكسل من شرور في عقل أي راهب، وكيف "أن المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة" (1كو29: 15).
الفصل الحادي والعشرون
من كتابات سليمان ضد الضجر
يشير سليمان، أحكم الرجال، إلى هذه الرذيلة في كثير من كتاباته إذ يقول: "تابع البطالين يشبع فقرًا" (أم 19: 28)، إما عيانًا أو خفية، حيث لا مناص من أن يتورط المتراخي ومن تلاحقه النقائص، فلا يفطن قط للتأملات الإلهية أو الكنوز الروحية، التي يشير إليها الرسول المبارك بقوله: "إنكم في كل شيء استغنيتم فيه في كل كلمة وكل علم" (1 كو 5: 1).
أما فيما يتعلق بهذا الفقر الذي يلحق المتكاسل أي الضجر، أيضًا يكتب: "الكسلان يكتسي بالخرق" (أم 21: 23)، فمن المؤكد لا يستحق أن يتزيّن بتلك الحُلة التي لن يعتريها البلى أو الفساد [والتي يقول الرسول عنها: "البسوا الرب يسوع المسيح" (رو 14: 13) وأيضًا: "لابسين درع الإيمان والمحبة" (1 تس 8: 5) والتي تكلم الرب ذاته عنها إلى أورشليم بلسان النبي قائلاً: "استيقظي، استيقظي، البسي عزك يا صهيون" (إش 1: 52).
أي شخص يستبد به نوم التراخي أو الضجر يفضل أن يكتسي لا بعمله وكده، بل بخرق التكاسل مقتبسين عبارات من الكتاب المقدس الراسخ (ويسيئون استخدامها)، دون أن يكسو تكاسله بحلة مجد وفخار، بل برداء العار وتلمس الأعذار، أولئك هم الذين يؤثرون هذا الكسل ولا يودون إعالة أنفسهم بكد أيديهم، كما كان الرسول يفعل دائمًا ويكلفنا أن نفعل، قائلين انه مكتوب "اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية" (يو 27: 6) وأيضًا: "طعامي أن أعمل مشيئة أبي" (يو 34: 4). ولكن هذه الأدلة هي خرق منتزعة من حلة الإنجيل المكين الراسخ، اُقتبست لهذا الغرض، أعني تغطية فضيحة تكاسلنا وعارنا، بدلاً من أن توفر لنا الدفء، وأن نتزين بحلة الفضيلة الفخمة الكثيرة الثمن، إذ قيل إن المرأة التي ورد ذكرها في سفر الأمثال والتي كانت ملتحفة بالعز وبالبهاء، كانت تصنع ثيابًا إما لنفسها أو لزوجها، حتى يُقال عنها في كل حين: "العز والبهاء لباسها وتضحك على الزمن الآتي" (أم 25: 31).
يعود سليمان مرة أخرى إلى ذكر آفة التكاسل فيقول: "طرق الكسلان مفروشة بالأشواك" (أم 29: 15)، أي مفروشة بهذه وغيرها من النقائص المماثلة التي سبق أن ذكر الرسول أنها تنبعث من البطالة. كذلك يقول: "نفس الكسلان تشتهي ولا شيء لها" (أم 4: 13)، ويشير الرسول إلى هذا الاشتهاء حين يقول: "ولا تكون لكم حاجة إلى أحد" (1 تس 12: 4). أخيرًا عدد الرسول تلك الآفات التي ذكر سليمان الحكيم أنها غرس البطالة والملل، في الفقرة الآنفة الذكر بقوله: "لا يشتغلون شيئًا بل هم فضوليون" (1 تس 11: 4). ويضيف إلى هذه الآفة آفة أخرى إذ يقول: "وأن تحرصوا على أن تكونوا هادئين" ثم "أن تمارسوا أموركم الخاصة، وتشتغلوا بأيديكم وتسلكوا بلياقة عند الذين هم من خارج، ولا تكون لكم حاجة إلى أحد" (1 تس 11: 4).
أما أولئك الذين يسلكون بلا ترتيب ولا يطيعون الوصايا، فالرسول يوصي أبناء الطاعة الجادين أن يعتزلوهم فيقول: "تجنبوا كل أخ يسلك بلا ترتيب، وليس حسب التعليم الذي أخذه منا" (2 تس 6: 3).
الفصل الثاني والعشرون
يشتغل الاخوة في مصر بأيديهم لا ليسدوا حاجاتهم فقط
بل ويخدموا الذين في السجون
الآباء في مصر، على هدى من هذه الأمثلة، لا يسمحون قط للرهبان، وبخاصة صغار السن منهم، أن يكونوا عاطلين لا يشتغلون[4]، معتبرين اشتهاء قلوبهم ونموهم في الصبر والتواضع يكون بمقدار اجتهادهم في العمل. ولا يقتصرون على عدم السماح لهم بقبول أي شيء من شخص آخر يسد احتياجاتهم، بل يهتمون أيضًا بأن يكرموا وفادة الحجاج والاخوة الذين يحضرون لزيارتهم من شغل أيديهم، وكذلك يجمعون قدرًا هائلاً من المؤونة والطعام، ويقومون بتوزيعه في أنحاء ليبيا حيث يعانون من الجوع والجدب، وفي المدن أيضًا لأولئك الذين يرزحون في قذارة السجون، لاعتقادهم أنهم بتقديمهم هذه العطية من ثمار أيديهم، يهبون للرب تقدمة صادقة مقبولة.
الفصل الثالث والعشرون
في أن البطالة هو العلة في عدم
وجود أديرة للرهبان مزدحمة في الغرب
لهذا حيث تُوجد هذه الأفكار (الخاصة بالبطالة) لا تجد أديرة مأهولة بمثل هذه الأعداد من الاخوة، لأنهم لا يعتمدون في تحصيل قوتهم على ما تنتجه أيديهم، على نحو يستطيعون معه البقاء بها على الدوام، وإذا وجدت بصورة أو بأخرى، عن طريق سخاء شخصٍ ما، مؤونة تكفي لإعالتهم، فإن حبهم للراحة وما يشعرون به من عدم الاستقرار لا يسمحان لهم بالبقاء طويلاً في المكان. من هنا جاء القول المأثور عن الآباء القدامى في مصر، بأن الراهب الذي يعمل يهاجمه شيطان واحد أما العاطل فتضربه أرواح شريرة لا حصر لها.
الفصل الرابع والعشرون
عن الأب الرئيس بولس الذي اعتاد كل عام
أن يحرق بالنار جميع ما أنتجته يداه
أخيرًا فإن الأب الرئيس بولس، وهو من أعاظم الآباء، عندما كان مقيمًا بصحراء كلاموس الشاسعة، كان خالي البال، إذ كان يعيش على الوفير من بلح النخيل ونتاج حديقة صغيرة، ولما كان محل إقامته بمنأى عن المدن والأماكن المأهولة مسيرة سبعة أيام كاملة لم يكن في استطاعته أن يعتمد في معيشته على ما تنتجه يداه، لصعوبة نقله الذي سيكلفه أكثر من ثمنه. فكان يجمع الخوص، ويشتغل فيه بانتظام، على أن ينتج منه قدرًا معينًا كل يوم، كما لو كان سيعتمد عليه في إعالته. وعندما كانت تمتلئ المغارة التي يعيش فيها بإنتاج عام كامل كان يحرق بالنار كل عام ما أتم عمله بجدٍ واجتهادٍ. بهذا كان يقدم الدليل على أنه بدون عمل يدوي ما كان في استطاعة أي راهب أن يستقر في مكان أو أن يسمو إلى مراتب الكمال، ومن ثمَّ فعلى الرغم من أن الحاجة إلى الطعام لم تكن تستلزم هذا التصرف، فقد كان يفعل ذلك مستهدفًا تطهير قلبه، وتقوية أفكاره، والاستقرار في قلايته، وإحراز النصرة على الضجر والملل.
الفصل الخامس والعشرون
كلمات الأب موسى التي قالها لي عن علاج الضجر
عند ابتداء إقامتي في الصحراء، استبدت بي يومًا ما نوبة عنيفة من الضجر، فذكرت ذلك للأب موسى رئيس جميع القديسين. واستطردت قائلاً إنني لم أتخلص من هذه النوبة، إلا بالهروب فورًا إليه. عندئذ قال لي: "إنك لم تُخلص نفسك منها، بل بالأحرى استسلمت لها كعبدٍ وتابعٍ. ذلك لأن العدو من الآن فصاعدًا سيلاحقك بهجمات أشد ضراوة وأكثر عنفًا، كهاربٍ من الميدان أو كمن قد لذ بالفرار، ما دام قد رأى أنك قد عجلت بالهروب حالما هُزمت في المعركة. عليك أن تعقد العزم، إذا ما التحمت مع العدو في معركة أخرى، ألا تتجنب عنف هجماته مؤقتًا بالفرار من قلايتك، أو بالاستغراق المتخاذل في النوم، بل بالأحرى تتعلم أن تهزمه بمقابلته والصمود أمامه… وهكذا ثَبَت أن نوبة الضجر لا يمكن التغلب عليها إلا بصدها ومقاومتها، لا بعدم ملاقاتها والفرار منها.
________________________________________
[2] توجيهات إلى أناتوليس عن الحياة العاملة 19.
[3] توجيهات إلى أناتوليس عن الحياة العاملة 25.
[4] اشتهر رهبان مصر بما كانوا يؤدونه من أشغال، ويمكن توضيح ما قاله القديس يوحنا كاسيان بأمثلة مقتبسة من كثير من أقوال الآباء. فمثلاً أبيفيانوس، في كتابه الثالث ضد الهرطقات، يُشّبه الرهبان، وبخاصة الذين في مصر، بالنحل، بسبب كدهم واجتهادهم. وهكذا يقول جيروم في خطاب منه إلى رستكوس، بأنه ما من أحد يلتحق بدير في مصر إلا ويؤدي عملاً، وأن هذه القاعدة موضوعة لبنيان النفس لا للتزود بالطعام. كذلك قيل عن القديس سيرابيون وأتباعه: "إنهم كانوا يعولون أنفسهم ويساعدون الفقراء من عمل أيديهم، ففي موسم الحصاد كانوا يقومون بجمع المحاصيل: فيضعون جانبًا ما يكفي من القمح لحاجتهم، ويمدون غيرهم من الرهبان بالحبوب دون مقابل". ويشدد القديس باسيليوس، في قوانينه النسكية، على قيمة العمل أما قانون بندكت فهو يأمر "بأنه ما دامت البطالة هي عدو للنفس، لابد من انشغال الاخوة تارة في الأعمال اليدوية، وأخرى في المطالعات الدينية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق