الأربعاء، 9 ديسمبر 2015

مؤسسات نظام الشركة للقديس يوحنا كاسيان ــ الكتاب الرابع ــ عن جاحدي العالم (الحياة العامة والفضائل اللائقة بها)

الكتاب الرابع
عن جاحدي العالم (الحياة العامة والفضائل اللائقة بها)
يقدم لنا هذا الكتاب في فصوله الثلاثة وأربعين أشبه بدستور عملي للإنسان الذي يريد أن ينبذ محبة العالم ويرتبط بجماعة رهبانية تكرس حياتها لله، وقد جاء كثير مما ورد في هذا الكتاب مطابقاً للقوانين الباخومية.

فيما يلي ملخص مبسط لما ورد في هذه الفصول:
ف1: يروي أن منطقة طيبة (حيث توجد الأديرة الباخومية) تضم عددًا أكبر من الرهبان، وتتبع نظامًا حازمًا دقيقا أكثر من غيرها. يوجد أكثر من 5000 راهب تحت قيادة أب واحد، يخضع الكل لشيخٍ واحدٍ في طاعة كاملة.
ف2: يبدأ الرهبان بنبذ محبة العالم منذ بداية الطريق حتى يبلغوا مرتفعات الكمال.
ف3: كانت أبواب الدير مغلقة أمام طالبي الرهبنة، ليدركوا أنهم إنما يطلبون الطريق الضيق، لا طريق الراحة والمجد الزمني. يبقي طالب الرهبنة عشرة أيام أو أكثر خارج الأبواب، لا يجد كلمة لطيفة من الاخوة الرهبان الذين يعبرون به، بل تُختبر مدي مثابرته للتأكد من صدق نيته ولكي يختبر حياة الاتضاع وطول الأناة. وكان يصنع مطانيات أمام الأخوة الذين يعبرون عليه.
متي قبل في الدير يصير تحت مراقبة شديدة، وخاصة من جهة اتضاعه وصبره وطاعته. وإن وجدت معه قطعة نقود واحدة مما كان يملكه قبلاً يُطرد من الدير ويلقي خارجًا كما يُدفع بحجر من مقلاع (القوانين الباخومية26).
ف4: يرفض الدير قبول أية تقدمة مما كان لدي طالب الرهبنة، معللاً ذلك بثلاثة أسباب:
1. حتى لا يفتخر علي اخوته الفقراء.
2. لئلا يحرم نفسه من اتضاع المسيح.
3.حتى يسهل طرده من الدير إن لم يصلح للرهبنة دون أن يشعر الدير بالحاجة إلى ما قدمه الشخص من تقدمات مادية.
ف5: متي قُبل إنسان في الدير يخلع ملابسه، ويقدم له الأب ملابس الدير ليدرك أنه قد تخلى عن كل شئ حتى ملابسه ليلتحف بفقر المسيح. وأن ما يأكله وما يرتديه هو عطية من الدير له. بهذا لا يخجل من أن يُحصي بين الفقراء بلا تمييز، كما لم يخجل السيد المسيح من أن يُحصي معهم، ويدعو نفسه أخاهم، بل يفتخر أنه صار له نصيب شركة مع عبيده (القوانين الباخومية26).
ف6: تودع الملابس التي يخلعها المقبول حديثًا في الرهبنة لدي وكيل الدير، إلى أن يمتحن الشخص في نموه الروحي وقدرته علي الاحتمال، فإذا نجح تُسلم ملابسه للفقراء. أما إن ظهرت عليه بوادر التذمر أو عدم الطاعة فتنزع عنه ثياب الدير ويرتدي ثيابه ويُطرد في عارٍ وخزي أمام جميع الاخوة.
ف7: إذ يرتدي الإنسان ثياب الدير لا يُسمح له بالاختلاط مع مجمع الاخوة في الحال، بل يودع تحت رعاية شيخ يسكن ليس بعيدًا عن مدخل الدير، ويهتم بالغرباء والضيوف، يبذل كل الجهد في استقبالهم بكل لطف.
يبقي يخدم الغرباء لمدة عام في اتضاع وطول أناة، فإن ثبت يدخل مجمع الاخوة ويُسلم إلى شيخ آخر يهتم بعشرة من الرهبان الحديثين، يقوم بتعليمهم وتدريبهم وذلك كالتدبير الذي ورد في سفر الخروج (25: 13).
ف8: يبذل الشيخ كل جهده ويقدم أغلب تعليماته كي يجعل الحديثين قادرين أن يصعدوا في الوقت المناسب علي مرتفعات الكمال العظيمة.
يدربهم أولاً أن يقهروا رغباتهم فيعطيهم أوامر تخالف إرادتهم، لأنه لا يقدر الإنسان أن يغلب الشهوات ما لم يمت أولاً عن رغباته بالطاعة. بهذا يمكنه أن يغلب الغضب وروح الزنا ويحفظ اتضاع القلب والاتحاد مع الاخوة ليكون في اتفاق معهم، بهذا يبقي زماناً طويلاً في الدير.
ف9: يلزم على الحديثين في الرهبنة ألا يعتمدوا علي تمييزهم الشخصي، ولا يخفون شيئاً من أفكارهم عن الشيخ الذي يتعهدهم. بهذا لا يقدر الشيطان أن يدمر الشخص الحديث اللهم إلا إذ أغواه بالكبرياء وإخفاء أفكاره. فإنه واضح أن الفكر الذي نخجل من كشفه علي الرئيس هو من الشيطان.
ف10: طاعة الرهبان الحديثين الكاملة، حتى أنهم لا يستطيعوا مغادرة قلاليهم ولا الذهاب لقضاء احتياجاتهم الطبيعية بدون إذن. يطيعون بثقة ويقين وبلا تردد كما لو كان الأمر صادراً من السماء.
ف11: يُقدم في الدير أطعمة غير شهية.
ف12: متى سمع الشخص من يقرع على باب قلايته يدعوه للصلاة، فإنه يقوم فورًا ويترك ما في يده. فإن كان يكتب وقد بدأ في كتابة حرف لا يكمل كتابة الحرف، متممًا فضيلة الطاعة بغيرة قوية لمن قرع بابه عن تكملة الحرف أو الكلمة.
ف13: باستثناء الملابس الخاصة والحصيرة المهلهلة لا ينسب أحد لنفسه شيئًا. فإنه من فلتت من شفتيه عفواً أو في جهالة كلمات مثل: "كتابي"أو "قلمي"أو "معطفي"أو "حذائي"، ناسباً أي شيء إلى نفسه يُحسب ذلك معصية عظمي يقدم عنها توبة.
ف14: إن قدم راهب عملاً بيديه وصار موردًا كبيرًا للدير، ليس من حقه أن يزيد من طلباته، وإنما يقدم هذا لسد عوز الكثيرين، دون أن يفتخر أو يتباهي بقدرته علي العمل. يُسمح له بكسرتي خبز. يقول القديس كاسيان إنه يكتب هذا وهو في خجل لأن هذا لا يحدث في أديرته بجنوب بلاد الغال.
يتمم الراهب هذا كله لأنه يحسب نفسه غريبًا عن العالم، وأنه تلميذ في الدير يتعلم، وخادم،وليس سيداً علي أي شيء.
ف15: يتحدث في خجل بمقارنته أديرة مصر وما يحدث في أديرته بجنوب بلاد الغال، حيث يلبس بعض الرهبان خواتم في أصابعهم يختمون بها، ولديهم دواليب يجمعون فيها ما تركوه في العالم، وأنهم يغضبون لأسباب تافهة.
ف16: يقدم لنا صورة حية لحياة التدقيق في نظام الشركة معطيًا أمثلة لذلك.
يقوم الشخص بالسجود حتى الأرض أمام جميع الاخوة طالبًا الحل منهم، ولا يقوم حتى يأذن له أب الدير بذلك وذلك في الحالات التالية:
1. إن حدث خطأ كسر جرة، فيُحسب مهملاً.
2. إن دُعي لعمل ما أو جاء إلى عمله العادي وتأخر.
3. إذا تردد في التسبيح بالمزمور.
4. إذا أجاب إنسانًا بكلام غير ضروري، أو يحمل جفافًا أو بغير تأدب.
5. إذا أهمل في عمل أوكل إليه.
6. إذا أظهر شيئاً من الشكوى.
7. إذا فضل القراءة عن العمل والطاعة، فتباطأ في إتمام واجبه الملتزم به.
8. إذا أنهي عمله ولم يسرع إلي قلايته.
9. إذا وقف مع شخص ما في طريق عودته إلي قلايته إلى فترة قليلة.
10. إن ذهب إلى موضع آخر ولو إلى لحظة.
11. إن أمسك بيد شخص (ليس بقصد المعونة).
12. إن تجاسر وناقش أمرًا مع شخص غير زميله الساكن معه في ذات القلاية.[حسب النظام الباخومي يسكن اثنان أو أكثر في القلاية].
13. إن صلي مع شخص ممنوع مؤقتًا من الصلاة الجماعية.
14. إن رأي أحد أقربائه أو أصدقائه وتحدث معه دون استئذان رئيسه.
15. إن استلم رسالة أو كتب إجابة علي رسالة دون إذن رئيسه.
أما الأخطاء الأخرى التي يسقط فيها الرهبان في أديرة جنوب فرنسا مثل احتقار الآخرين وترك الدير بلا إذن والخلافات والجلوس مع النساء والحسد والطمع والادعاء بملكية شيء والأكل بين الوجبات وما إلى ذلك، فإن هذه الأمور لا يعالجونها بالتوبيخ الروحي كما قلنا وإنما بالضرب والطرد من الدير.
ف17: بخصوص القراءات المقدسة أثناء الطعام، فإن هذا النظام لم يكن قائمًا في نظام الشركة في مصر بل في كبادوكية. وتعليل ذلك أن المصريين يفضلون الصمت الكامل. فمع وجود عدد ضخم جدًا يأكلون معًا لا يجسر أحد أن يتفوه ولو بصوت خافت. فلا يُقرأ شيء حتى لا تثار أية تساؤلات.
كل راهب ينزل من رأسه غطاء الرأس حتى لا يرى شيئًا أو أحدًا سوى المائدة والطعام الموضوع أمامه، ولا يرى أحد ماذا يأكل الشخص الملاصق له.
ف18: بين الوجبات العادية يحرص الراهب ألا يشتهي شيئًا. فإنه إذ يسير بين الحدائق وتصطدم الفاكهة بصدره، بل قد تكون ملقاة على الأرض ويطأها بقدميه، فإنه يشعر بالخطأ إن حاول تذوق أحد الفواكه أو لمسها بيده، ماعدا ما يُقدم له على المائدة وما يوزعه الوكيل في خدمة الاخوة على الجميع لراحتهم.
ف19: لكي لا يظهر القديس يوحنا كاسيان انه حذف شيئًا عن مؤسسات الشركة أشار باختصار عما يحدث في بلاد أخرى بخصوص الخدمات اليومية للاخوة، وذلك في الميصة (ما بين النهرين) وفلسطين وكبادوكية وكل الشرق. يقومون بتوزيع المسئوليات على جميع الرهبان كل أسبوع. ويسرع الكل إلى تنفيذ ما يلتزم به في غيرة وباتضاع. لا يكتفي كل واحدٍ بالخدمات الموكولة إليه، بل يقوم ليلاً ويساعد الآخرين في إتمام التزاماتهم بغيرة.
ف20: يحسب الرهبان كل ما يدخل الدير (حتى الطعام) مقدسًا، فيتعاملون معه بوقار، ويدبرون كل شيء في وقار عظيم، حاسبين كل عمل مهما بدا تافهًا له أجرته عند الرب، حتى إن ملأ الراهب الزجاجة ماء، أو قدم كوب ماء لشخصٍ ما، أو قام بتنظيف المنصة التي يعظ عليها الأب أو تنظيف قلاليهم.
روى القديس كاسيان ما رآه بعينيه عن راهب سقطت منه 3 حبات عدس وأهملها، كيف حُسب مهملاً، وقدم توبة، لا من أجل قيمة العدس، وإنما من أجل عدم اكتراثه وإهماله.
لهذا الفصل أهميته الخاصة فهو لا يكشف عن نظرة الراهب إلى الحياة الرهبانية والنسكية فقط كعمل مقدس، وإنما أيضًا كل عمل تمتد إليه يد المؤمن يتطلع إليه بنظرة مقدسة… هذا ما سأتحدث عنه بمشيئة الله في الفصل التالي تحت عنوان "قدسية الحياة اليومية".
ف21: قدم مثلاً للعمل الاختياري بغيرة، أنه سمح أب الدير أن يُقدّم طعامًا جافًا غير مطبوخ لعدم وجود حطب حول الدير، لكن بعض الاخوة بذلوا جهدًا فائقًا بمحض اختيارهم لجلب الحطب من أجل اخوتهم، حتى يُقدم لهم طعام مطبوخ.
ف22: ما سبق ذكره بخصوص توزيع الخدمات وتبادلها بين الاخوة كل أسبوع لا نجد هذا النظام بين المصريين، بل كل شخص يتعهد بعمل يلتزم به دومًا بلا تغيير ما دام قادرًا على هذا العمل صحيًا ويسمح سنه بذلك.
ف23: إذ يكتب هذا لتدريب الذين يجحدون هذا العالم، يقول أن الراهب يبدأ بالاتضاع الحقيقي والطاعة الكاملة حتى يصعد إلى مرتفعات الفضائل الأخرى أيضًا، وقد وجد من اللازم تقديم عينات قليلة لتصرفات بعض الشيوخ الذين سموا في هذه الفضيلة.
المثل الأول الأب يوحنا الذي عاش بجوار ليكوبوليس (أسيوط) في منطقة طيبة والذي بلغ إلى درجة النبوة من أجل طاعته العجيبة، وصارت له شهرة حتى بين ملوك هذا العالم، فإن الإمبراطور ثيؤدوسيوس لم يكن يجسر أن يعلن الحرب ضد الطغاة الأقوياء جدًا دون تشجيع كلمات هذا الأب، واثقًا أنها صادرة كما من السماء فينال نصرات على أعدائه في المعارك التي تبدو لا رجاء فيها.
ف24: يروي لنا قصة هذا الأب الطوباوي يوحنا المتسم منذ صباه بالاتضاع والطاعة حتى كان معلمه يدهش من طاعته. وإذ أراد أن يختبر فضيلته هذه إن كانت عن إيمان أصيل وقلب بسيط مخلص أصدر إليه عدة أوامر لا لزوم لها وغير ضرورية بل ومستحيلة، من بين هذه الأوامر اختار القديس يوحنا كاسيان ثلاثة ليكشف عن كمال طاعة الطوباوي يوحنا.
قطع الشيخ عصا جافة من بين الحطب المقطوع الجاف ليُستخدم كنار للطبخ. لم تكن العصا جافة فحسب، بل يظهر عليها أنها مقطوعة منذ زمن بعيد. غرس الشيخ العصا وطلب من الطوباوي أن يرويها ماء مرتين كل يوم. وبالفعل أطاع التلميذ بكل وقار حاسبًا أنه ليس شيء غير مستطاع لدى الطاعة. وكان يسير حوالي ميلين ليسقي هذا الفرع الجاف لمدة عام كامل حتى حين كان مرهقًا جسديًا وفي أيام الأعياد وعندما كان مشغولاً بأمور هامة. لم يمنعه البرد القارص في الشتاء من الطاعة. تطلع الشيخ فرأى تلميذه يطيعه، وكأن الأمر قد صدر إليه من السماء، ولم تظهر على ملامح وجهه أية علامات من الضيق. وبعد عام سحب الشيخ العصا وطلب من تلميذه أن يتوقف عن ريّها.
[روى Sulpitius Severus قصة مشابهة عن راهب مصري، لكنه يروي أنها في السنة الثالثة صار للفرع جذرًا والفرع أفرخ.]
ف25: يقول القديس يوحنا كاسيان إذ فاحت رائحة الطاعة الذكية التي للطوباوي يوحنا في كل الأديرة جاء بعض الاخوة إلى الشيخ لكي يختبروا طاعته أو بالأحرى ليتعلموا منه، وإذ سمعوا في الدير عن طاعته دُهشوا للغاية. دعاه الشيخ وسأله أن يحضر زجاجة زيت ويلقيها من الشباك، وهي الزجاجة الوحيدة التي كانت في البرية يُستخدم زيتها لإضافة الغرباء. أطاع التلميذ دون تردد وبدون تفكير بأن الأمر الصادر إليه سخيف، ولا فكّر في حاجة الدير إلى الزيت، وصعوبة الحصول عليه في البرية.
ف26: أراد القادمون أن يروا مثلاً آخر، فأمر الشيخ التلميذ أن يجري ويدحرج حجرًا بأقصى سرعة، لا يستطيع عدد كبير من الرجال أن يحركوه. في طاعة وثقة أن معلمه لا يمكن أن يصدر له أمرًا مستحيلاً وبلا نفع قام بالتنفيذ.
ف27،28: تحدث عن طاعة الأب باترموكيوس Patermucius.
ف29: طاعة أخ من عائلة شريفة غنية وعلى درجة عالية من الثقافة لم يخجل من أن يحمل عشرة مقاطف على كتفه ويسير في طرق المدينة يبيعها طاعة لرئيسه.
ف30: طاعة الأب بينوفيوس Pinufius، الذي كان كاهنًا في مجمع شركة في دلتا مصر في Panephysis له شهرته، وقد نال كرامة عظيمة بسبب حياته الفاضلة وسنه، وإذ اشتاق إلى ممارس الطاعة بروح الاتضاع انسحب إلى منطقة طيبة وتخفّى كأحد أفراد الشعب، وكان يتوسل بلجاجة وانسحاق إلى فترة طويلة لكي يقبلوه في أحد الأديرة هناك. وإذ ظنوا أنه جاء إلى الدير في هذا السن لأنه محتاج قبلوه أن يعمل في حديقة الدير كطالب رهبنة تحت إشراف شاب، فكان مع اهتمامه الشديد بالحديقة يهتم بغرس الفضائل ونموها في أعماقه خاصة الاتضاع والطاعة. وكان متى حل الظلام يقوم بممارسة الأعمال الصعبة التي يحتقرها الآخرون دون أن يعلم أحد بذلك. بقى على هذا الحال ثلاث سنوات يبحث عنه مجمعه في كل أنحاء مصر، وبالكاد عرفه أحد الأشخاص القادمين لأنه كان يلبس ثيابًا رثة ويسلك بروح متضعة في أعمال الحديقة. اقترب إليه الشخص وكلن متشككًا في شخصه لكنه لاحظ نظراته وصوته وفي الحال سقط عند قدميه، فتعجب كل الحاضرين. لكن إذ انكشف أمره سأله الجميع أن يسامحهم عن أي تصرف صدر عنهم. أعيد إلى مجمع الشركة بغير إرادته، وكان يبكي بدموع مشتاقًا أن يكمل أيام غربته خاضعًا مطيعًا، وكان كثيرون يراقبونه لئلا يهرب مرة أخرى من المجمع.
ف31: تكملة قصة الأب بينوفيوس الذي لم يبق في ديره سوى وقتًا قصيرًا، وإذ بجله الكثيرون تخفى وأبحر إلى مقاطعة فلسطينية بسوريا، وانضم إلى الدير الذي كان القديس يوحنا كاسيان يعيش فيه. التحق به كمبتدئ في الرهبنة ولم تمضِ فترة قصيرة حتى انكشفت فضائله وعُرفت شخصيته. فقد جاء بعض الاخوة إلى الأماكن المقدسة وتعرّفوا عليه وبتوسلات حارة أعادوه إلى المجمع مكرمًا.
روى لنا القديس يوحنا كاسيان ذات القصة في شيء من التفصيل في المناظرة 20 مع نفس الأب بينوفيوس. وكما يقول القديس كاسيان أنه "حسب تعبير الرب صار كمدينة موضوعة على تل لم يستطع أن يخفي نفسه طويلاً".
ف32: نصيحة قدمها الأب بينوفيوس إلى أخ التحق بالدير في حضور القديس يوحنا كاسيان وقد بقى عدة أيام على مدخل الدير ثم قبله وقال له "أنت تعرف بعدد انتظارك هذه الأيام العديدة عند المدخل ها أنت تنضم اليوم إلى الدير. ولكي نبدأ معك يلزمك أن تعرف صعوبة طريقك…"
ف33: (تكملة النصيحة) كما أن الذين يخدمون الله بأمانة ويلتصقون به حسب هذا النظام ينالون مجدًا عظيمًا، هكذا تحل عقوبات قاسية على الذين يسلكون فيه بغير مبالاة وببرود ويفشلون في أن يظهروا ثمر القداسة، لهذا كما يقول الكتاب حسن أن الإنسان لا ينذر عن أن ينذر ولا يفي (جا4: 5 LXX). هذا هو السبب لعدم ضم الإنسان إلى الدير بسهولة. فإنهم إذ يقبلون الشخص في الدير بتسرع يصيرون مذنبين في عيني الله.
ف34: يكمل الأب بينوفيوس نصيحته مقدمًا مفهومًا لنبذ العالم:
[نبذ العالم ليس إلا شهادة للصليب والإماتة. لهذا يجب عليك أن تدرك أنك اليوم قد مت عن هذا العالم وأعماله ورغباته، وكما يقول الرسول: قد صُلبت عن العالم، وصُلب العالم عنك (غلا14: 6).
ضع في اعتبارك متطلبات الصليب تحت العلامة التي يليق بك من الآن أن تعيش فيها. لأنك لا تعود تحيا، بل يحيا فيك ذاك الذي صُلب لأجلك (غلا20: 2).
يليق بنا أن نعبر زماننا في هذه الحياة في هذا النمط والشكل الذي فيه قد صُلب لأجلنا على الصليب، حتى إذ (كما يقول داود) يسمّر جسدنا بخوف الرب (مز120: 119) لا تعود كل رغباتنا واشتياقاتنا تخضع لشهواتنا الذاتية بل لإماتته. هكذا نتمم وصية الرب القائل: "من لا يحمل صليبه ويتبعني فلا يستحقني" (مت38: 10). لكن ربما تقول: كيف يمكن لإنسان أن يحمل صليبه على الدوام؟ أو كيف يمكن لأحد وهو حيّ أن يُصلب؟ استمع كيف يكون ذلك باختصار].
ف35: يكمل الأب بينوفيوس حديثه موضحًا أن خوف الرب هو صليبنا.
[ خوف الرب هو صليبنا.
كما أن الشخص المصلوب ليس لديه بعد قوة على الحركة أو توجيه أطرافه نحو أي اتجاه حسب مسرته، هكذا نحن يجب علينا أن نسمّر رغباتنا واشتياقاتنا، ليس حسب ما يسرنا ويبهجنا الآن بل حسب ناموس الرب، الذي يقيّدنا.
وكما أن الذي يُسمّر على خشبة الصليب لا يبالي بعد بالأمور الحاضرة، ولا يفكر في اشتياقاته، ولا يضطرب بالقلق، ولا يهتم بالغد، ولا يرتبك بأية رغبة للامتلاك، ولا يلتهب بأي كبرياء أو خداع أو منافسة، ولا يحزن على أضرار حاضرة، ولا يتذكر أمور ماضية، وبينما يأخذ أنفاسه في الجسد يحسب نفسه ميتًا عن كل الأمور الأرضية، باعثًا أفكار قلبه قدامه إلى الموضع الذي لا يشك أنه ذاهب إليه قريبًا، هكذا نحن أيضًا إذ نُصلب بمخافة الرب يلق بنا أن نموت حقًا عن كل هذه الأشياء، أي ليس فقط عن الرذائل الجسدية، بل أيضًا عن كل الأمور الأرضية. وتتركّز عيون أذهاننا على ذاك الموضع الذي نترجى كل لحظة أن نعبر إليه. فإننا بهذا نميت كل رغباتنا وعواطفنا الجسدية (الشريرة).]
ف36: يحذرنا الأب بينوفيوس لئلا يصير جحدنا للعالم بلا نفع، وذلك إن عدنا نرتبك بهذه الأمور التي سبق لنا أن نبذناها.
[لذلك فلتحذر لئلا تعود فتقتني الأمور التي سبق أن نبذتها وهجرتها، وخلافًا لوصية الرب ترجع عن حقل العمل الإنجيلي وتُوجد مرتديًا الثوب الذي سبق أن خلعته (مت18: 24).
لا تغطس مرة أخرى في الشهوات الدنيئة الأرضية ورغبات هذا العالم، فإنك إذ تستخف بكلمة المسيح تنزل عن سطح الكمال وتخسر، إذ تقتني مرة أخرى شيئًا مما جحدته ورفضته…
احذر لئلا في أي وقت عندما تبدأ تدخل إلى عمق معرفة المزامير ومعرفة هذه الحياة، تنتفخ قليلاً قليلاً وتنعش الكبرياء الذي وطأت عليه بقدميك الآن في البداية في اتقاد الإيمان وكمال الاتضاع. وهكذا (كما يقول الرسول) إذ تبني مرة أخرى ما قد هدمته تجعل نفسك مرتدًا (غلا18: 2)… فإنه ليس من يبدأ بهذه الأمور بل ذاك الذي يصبر إلى المنتهى يخلص (مت13: 24).]
ف37: يكمل الأب بينوفيوس حديثه بأن الشيطان دائمًا يرقد منتظرًا أن يصطادنا في نهاية أيامنا، لذا يلزمنا دومًا أن نحذر رأسه، التي هي بداية الأفكار التي تثور فينا فنسحقها تحت أقدامنا…
ف38: يتحدث عن استعداد جاحد العالم لمقاومة التجربة. فإنه كما قيل "عندما تريد أن تخدم الرب خفه وأعدد نفسك للتجربة" (ابن سيراخ1: 2)، فإنه بضيقات كثيرة ندخل ملكوت السموات. الباب كرب والطريق ضيق الذي يقود إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونه (أع22: 14، مت14: 7).
[ضع في اعتبارك أنك تنتمي إلى القلة المختارة، ولا تكن باردًا على مثال الكثيرين الفاترين، بل عش كالبقية القليلة، فتستحق ملكوت الله معهم، لأن كثيرين يُدعون وقليلون يُختارون. وأيضًا تذكر أنه القطيع الصغير هو الذي يُسر الآب أن يعطيه الملكوت ميراثًا له (مت16: 20؛الو32: 12). لهذا يجب ان تتحقق من أنه ليس بخطية هينة أن الشخص الذي سلك الكمال يسير بعد ذلك في عدم الكمال.
لبلوغ حالة الكمال لتصعد الخطوات في الطريق التالي.]
ف39: طريق الخلاص الممتد نحو الحب:
[بدء خلاصنا وحصنه كما قلت هو مخافة الرب (أم10: 9). فإنه خلال هذا يمكن لأولئك الذين يتدربون في طريق الكمال أن يبدأوا فيه بالتحول وأيضًا بالتطهر من الرذائل والنمو في الفضيلة. وعندما يقتني هذا مدخلاً في قلب إنسان يُنتج استخفافًا بكل الأشياء، ويلد نسيانًا للأقرباء ورعبًا من العالم نفسه. وبالاستخفاف من فقدان كل الممتلكات يُقتنى الاتضاع. يتأكد الاتضاع بالعلامات التالية:
أول كل شيء: إن كان الإنسان قد أمات كل رغباته.
ثانيًا: إن كان لا يخفي شيئًا من أعماله أو حتى من أفكاره عن رئيسه.
ثالثًا: إن كان لا يثق في رأيه الخاص، بل في حكم رئيسه، ويصغي بغيرة وشوق إلى توجيهاته.
رابعًا: إن كان في كل شيء يستخدم الطاعة واللطف والصبر الدائم.
خامسًا: إن كان ليس فقط لا يؤذي أحدًا بل ولا يتضايق أو يثور إذا حلت به أضرار.
سادسًا: إن كان لا يفعل شيئًا ولا يجرؤ على عمل شيء لا يحثه عليه النظام العام أو الاقتداء بشيوخنا.
سابعًا: إن كان مكتفيًا بأقل المراكز الممكنة ويحسب نفسه عاملاً بطالاً وغير مستحق لكل ما أُعطي له.
ثامنًا: إن كان لا يعترف فقط خارجيًا بشفتيه أنه أقل من الكل، بل حقيقة يؤمن في أفكاره العميقة لقلبه بذلك.
تاسعًا: إن كان يضبط لسانه ولا يتكلم كثيرًا.
عاشرًا: إن كان لا يتأثر بسرعة ولا بكونه دومًا مستعدًا للضحك.
بمثل هذه العلامات وما أشبهها يُعرف الاتضاع الحقيقي. وعندما يكون بحق هذا في أمان، للحال يقودك إلى درجة أعلي للحب الذي لا يعرف الخوف (1يو18: 4). بهذا تبدأ بطريقة كما لو كانت طبيعية، دون مجهود، أن تحفظ كل ما سبق أن راعيته قبلاً دون خوف من العقوبة، ولا تعود بعد تفعل ذلك بسبب العقوبة أو الخوف منها، بل خلال حب الصلاح نفسه والابتهاج بالفضيلة.]
ف40: يطلب الأب بينوفيوس ألا يقتدي الراهب بأمثلة كثيرة من الكمال، بل من شخص واحد أو عدد قليل منهم.
ف41: يقدم الأب بينوفيوس وصية هامة للراهب السالك في حياة الشركة، وهي أن يكون كالأصم الذي لا يسمع والأخرس الذي لا يفتح فمه كقول المرتل (مز14: 38،15)، وأعمى، ويحسب نفسه غبيًا.
ف42: الصبر ليس ثمرة تصرفات الغير معنا، بل ثمرة طول أناتنا الداخلية.
[لذلك يجب عليك ألا تتطلع إلى الصبر في حياتك كثمرة لتصرفات الغير، ظانًا أنه بهذا فقط يمكنك أن تضمن الصبر متى لم يثيروك بشيء، (فإنه ليس في سلطانك أن تمنع حدوث هذا)، بل بالأحرى يلزمك أن تتطلع إليه كثمرة اتضاعك وطول أناتك، الأمر الذي يعتمد على إرادتك أنت.]
ف43: يختم هذا الكتاب بتأكيد أن الراهب يصعد نحو كمال الحب الرسولي بواسطة مخافة الرب التي هي بدء خلاصنا.
[مخافة الرب تلد الندامة.
ومن الندامة ينبع النبذ، أي التعري عن كل الممتلكات والاستخفاف بها.
والتعري يلد اتضاعًا،
والاتضاع إماتة عن الشهوات.
وخلال الإماتة عن الشهوات تبطل كل الأخطاء وتُستأصل.
وبانتزاع الأخطاء تبزغ الفضائل وتنمو.
وإذ تبزغ الفضائل تُقتنى نقاوة القلب.
وبنقاوة القلب يُكتسب كمال الحب الرسولي.]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق