مختارات من الكتاب الثالث
=======
- إقامة القديس في قرطجنة عندما بلغ السابعة عشرة من عمره
و ظل فيها حتى التاسعة عشرة .
( أوغسطينوس يبحث عن العشق )
فـــــــــي الســابعة عشرة من عمـري ذهبت إلي قرطجنــــــــة ،
و قد كانت تدوي في أذنيِ مجموعة من أصوات غرامياتي الدنسة ،
و مع أننـي لم أكــــن قد وقعـــت فـــي شــــــــــباك الغــــــــــرام ،
إلا أننــــي رغبـــت في أن أعشق حتى كرهــــــــــت حيـــــــاتي ،
لأنني لم أجد فيها ما أعشق رغم إنــي أبحـــــث عن العشــــق ...
لقــــــــد أبغضــــــــــــــــــــــــــــــــت أن أهيـــــــــــــم بالعشـــق ،
و أبغضــــــــــــــــــــــــــــــــت كل طـريق توجد فيه مكائده ،
لأنــــــــه كــــــــــانت توجـــــــــد فـــــــي نفســـــي مجـــــــــاعة ،
إلـي ذلك الطعـــــــام الروحـــــي الذي هو أنـــــــت يا إلهــــــــــي .
و مع ذلك فإنني لم أطــــلب هذا الطعـــام ،
لا لأنه كـــــان لـــــدي منه ما يكفينـــــــي ،
بل لأننــــــي لم أكــــــن أشــــــــــــــتهيه ،
لم أكن أشتهي ذلك القوت الذي لا يفني ،
بل اشــــتهيت كل ما كــــــــان باطــــــــلاً ،
لأن نفسي كانت عليلة و غارقة في أحزان كثيرة .
لقد ابتعدت نفســي التعيســــــــة بعيـــــداً عنك يا إلهــــــــــــي !
لقد ضلت في هوي حواسها ، تلك الحواس التي كانت بلا روح .. !
إن لـــــذاتي كــــــــانت فـــي أن أعشــــــــــــق و أُعشـــــــــــق ،
و كانت هذه اللذة تزداد كلما كنت أخضع نفسي لشهوات الجسد ،
و دنست أصل الصداقة و بهائهـــا بنجاســة الشـــهوة و سعيرها ...
و لكنك يا إلهـــي يا رحمتي قد مزجت هذه المتعــــة بمـــرارة لطفــــــك ،
و أوثقتني بأربطة الحـــــزن ، فتمنيت أن أجلد بسياط ملتهبة من الحديد ،
لتحترق أغصان الحســــــد و الشكوك و المخاوف و السخط و المنازعات .
* * *
أحذرى يا نفسي الدنس لأنك تحت حراسة إلهك ، إله آبائنا ،
الذي به يليق التسبيح و التعظيم إلي الأبد فوق كل شــئ .
لذلك فاحذري الدنس .
أنت وحدك أيها الرب الإله هو الذي يحب الأرواح أكثر من حبنا لهــا ،
و ترحمهـا رحمــــة دائمـة لأنـــــك تحبهـــــــــا حبــــــــاً طــــــاهراً ،
إلا أنها مع ذلك تجلب لنفسها الأحزان ( و من هو كفء لهذه الأمور ) .
* * *
........لا عجب أن يضل ذلك الحمل - الذي هــــو أنـــــــا -
من قطيعك و يجزع من حراســـــتك و يمرض بأمراض قبيحة .
لقد أفسدته محبــــة الأحـزان ،
و سيطرت علي نفسه الرغبة
في مشـــــــــــــــاهدة الآلام ، حـــتى أنـــــــــه :
عندما كـــــان يســــــمع هذه الخزعبــــــــــــــلات ،
التي تنشب مخالبهـــــــا المسممة في وجهـــــه ،
كانت نفسه تنتفخ انتفاخاً و تلتهـــــب التهـــــــاباً ،
حتـــــــــى يصـبـــــــــــــح كقـــــرحة عفنــــــــــــة .
فهل كانت مثل هذه الحياة معتبرة حياة يا إلهي ؟؟
* * *
و مع ذلك فإن رحمتك الصادقة قد رفرفت عليَ من بعيد ...
لقـــــــــد أفنيـــــت نفســي فـــي خطـــــايا أليمــــــــة ،
لقـــــــــد نبــــذتك و انتهكـــــــــت حــــرمة مقدســـاتك ،
و أشبهت المشـــترفين علي هــــــــــاوية المــــــــــوت ،
و عبادة الشياطين الخادعين التي قدمت سيئاتي ذبيحة لهم !!
و مع ذلك كــــــله فإنــــــــك لم تنســـــني ، بل عاقبتــــــني .
بينما كان أبناؤك يحتفلون بخدمة الأسرار المقدســــة داخل كنيستك ،
تجاسرت و عملت عملاً استوجب قصاص الموت من أجل نتائجـــــه ...
و لكنك لم تميتني بل عاقبتني بعقوبات صارمة .
و لكن تهــــــون بجــوار خطيئتــــي .
إنك رحمتي الفائقـــــة يا إلهــــي...
إنك منقــــــذي :
من كل تلك المهـــالك الفظيعـــــــة ،
التي كنـت فيها هائماً برقبة غليظة ،
و مبتعــداً بعيــــــــــــــداً عنــــــــك ،
عاشـــــقاً طـــــــرقي لا طــــرقك ،
عاشـــــقاً حـــــــــــرية زائفــــــــة .
* * *
في ذلك الوقت عــزمت علي مطـــالعة الكــتب المقدســـة ،
لعلي أستطيع أن أدرك كنهها و لكني لم أستطع أن أفهمها ،
لأن ما فيها لم يكن يتفق مع طبائع المتكبرين أو حديثي العهد بالإيمان ،
لقد كانت معانيها سامية ، و منطوية علي أســـــرار خفيــــة ،
لم أقـــدر أن أصل إليها أو أحني هامتـــــي لأتتبـــع خطواتهـا .
* * *
إن أعمــــالك الروحيــــــــــة كانـت قبــل أعمالك المادية ،
و لكني لم أجع و لم أعطش حتى إلي أعمالك الروحية ،
و لو كانت سمائية و مضيئة ،
لأن شوقي كان متجهـــاً إليك و حــدك أنت أيها الحـــق ،
الذي لا يمكـــــــــــن أن يعــــــــــــتريه تغير و لا ظل دوران ...
... لم أشبع بتلك الأباطيل لأنها كانت شيئاً آخر خلافك
كما أدركتك بعــــد هدايتي ..
لقد كانت تلك القشور التي تغذيت بها في ذلك الوقت عديمة القيمة ،
لذلك لم أشبع ، و لكن عندما فتشت عنك ياحبيـــــب قلبـــــــــــــــي
وجدت فيك شـــبعاً و ريــاً ..
أنت شئ آخر غير تلك الأجسام المادية التي نبصرها في كبد السماء ،
ما ظهر منها و ما أستتر لأنك خالقهــا جميعــــاً ،
دون أن تفضلهــــا بشيء عن سائر مخلوقاتك ..
لأنك لســـــت حيـاة الأجســــاد بـــــــــــــــل حيـــــــاة الأرواح ،
و حياة الأحياء التي حياتها فيك يا من لا تتغير يا حياة نفسي .
* * *
أين كنت مني في ذلك الوقت ؟! و علي أي بعد كنت ؟!
لقد كنت تائهاً بعيداً جداً عنــــك و كنت محـــــــــــــروماً
حتى الخرنوب الذي تقتات به الخنازير التي كنت أطعمها …
ويل لي .. ثم ويل.. إلي أي درجات الهاوية كنت مُساقاً ..
و كم تعبت و تلــفت ســــعياً وراء الوصــول إلي الحــــق ..
و أخيراً حصلت عليك يا إلهي .
إنني أعترف بــذلك أمامـــــك يا من رحمتني ..
و لم أكن من قبــل معــــترفاً كمــــا أنــا الآن ..
إنني أعترف بسعي في سبيل الوصـــول إليك :
دون أن أهتــــدي في ذلك بعقـــلي البشــــري ،
الذي جعلني أعتقد بأني أسمي من الحيوانات ،
و لكـــــن الذي هــــداني هــــو روحـــك الذي كــــان في داخـــــلي ،
مستتراً أكثر من كل ما هو مستتر جداً و أعلي من كل ما هو عال .
و قبل ذلك كنت أسير مندفعاً وراء شـــــهوات جســـــدي ،
فصادفتني تلك المرأة الشريرة . و لما كنت جاهلا و غبياً ،
فإنني لم أدرك أنها تلك المرأة التي عناها سليمان بقوله
( إنها جالسة عند الباب تقول :
كُل خبز الخفاء طوعاً و أشرب المياه المسروقة فهي حلوة )
لقد أغوتني تلك المرأة لأنها أدركت من عينيَ أنهما زائغتان
و أن نفسي تشتهي طعاناً كهذا الطعام الذي كنت أتلذذ به .
* * *
و لكن ... أيمكن من الظلم في أي زمان و أي مكان أن :
تحب الرب إلهك من كل قلبــــك و مـــن كـــل نفســـك
و من كل فكـــرك و تحب قريبك كنفسك .
كـــــــلا بالطبــع :
و لذلك كانت تلك الخطايا البشعة التي هي ضد طبيعة البشر
كخطايا رجال سدوم مكروهة و مبغوضة حتى إن العقاب واجب ،
لكــــل من يرتكبهـــا في كل زمــــــــان و كل أمة كناموس الله ،
الذي لم يأمر البشر بأن يهتكوا بعضهم بعضاً..
أمــــا اللـــــــــــــه فإنه عندمــــا يأمــــــر بـــــأي عمــــــــــــل ،
فــــــإن هــذا العمــــل يجــب أن ينفــــــــذ ،
حتـــــــــــــــــــى و لو كان هــذا العمــــل ضد عــوائد الناس ، ..
أن لكــل مـــــــلك في مملكــــة أن يأمـــر بما لم يأمر به أحد ،
أو بمـــــــــــــا لم يأمــــر هو به من قبـــــــل.
و مــــــع ذلــــــك تكون طـــــاعة هــــــــذا الأمـــــر واجبــــــــة .
تحقيقـــــــــــاً للأمـــــن و الســـــــــــــــلام .
اللذين لا يسودان إلا بطــــــــاعة أوامـــــــر الحكــــــــــــــــــام ،
لأن طاعة الحكام هي الميثــــاق العـــــام للهيئــة الاجتماعية ،
فمـــــن باب أولي تكون طـــــاعة أوامر الله واجبــة علينـــــــــا ،
لأن الله هـــــــــو المتسلط وحـده عـــــــلي كـــل الكائنــــــات .
و كمـا أنــــــــــه فــي سيادات البشــر :
تكون السلطة الأعظم سيادة واجبة الطاعة ،
و التفضيــــــــل عــــــــــلي ما هو دونهـــــا .
فكــــــــــــــــذلك يجب أن يطاع الله :
و يفضل علي كل شئ لأنه فوق الجميـــع .
و لكن أيمكن أن يلحقك شئ من هذه القبائح ،
يا من لا يمكــــــــن لأحــــــــد أن يدنســــــك ؟
و هل توجد هنالك أعمال عنيفة يمكن أن تضرك ،
يا من لا يمكــــــــن لأحــــــــد أن يضــــــــرك ؟
و إذا كان لا يوجد هنـــــالك شــئ من هـــــذا ،
فلماذا إذن تنتقم من البشر عندما يخطئــــون ؟
... إنك تنتقم من البشر لأنهم يرتكبون ما يضرهم ،
ناظراً إلي أنهم عندما يخطئون إليــــــــــــــــــــــــــك ،
يخطئون أيضاً ضد أنفســــــهم ،
هم بإفراطهم في استعمال أشياء مباحــة ،أو ليســـــت مبــــــــــــاحة ،
كتلك العـــــادة التي هــي ضد الطبيعــــة ، إنما يسيئون إلي أنفسهم ،
لأن هذا الشــــر يفســـــد طبـــاعهم التي خلقتهـــــــــا أبدعتهــــــــــا .
….لذلك يجــب علينـــا أن نصــــــلي بكـــــــل تــــــــذلل :
لنرجع إليك ، لتطهـــرنا من خطايا عاداتنـــا الشـــريرة ،
لأنك رحـوم ، و تغفــــر خطــــــــايا الذيـن يعترفــون لك ،
و تسـمع أنيـــــــــن الأســــــــــــــــــــير ،
و تحـــله من قيوده التي يقيد بها نفسه ،
إن كان لا يضادك و لا يرفع أعلام الحرية الباطـــلة ،
فيخسر كل شـــــئ عندما يشـــتهي ما لغــــيره ،
و يحب خيره الخاص أكثر من حبك يا خير الجميع .
* * *
الله يوحي إلي أمه في رؤيا بهدايته
أما أنت يا رب فقد أرسلت لي معونتــــك من الأعـــــالي ،
و خلصـــــــت نفســـــــي من تلك الهـــــــاوية العميقـــة ،
لأن أمي المؤمنــــــة بك كانـت تبكي إليك من أجـــــلي ،
و كان بكاؤها يفوق بكاء الأم الثكلى علي فقد وحيدها ...
لقد كانت أمي مؤمنــــة بـــك و ممتلئة من روحك القدوس ،
فأدركــــت خـــطر المــــــــوت ، الـــذي كنت متمسـكاً بـه ،
و أنت يا رب قد اسـتجبت لها ، و لــم تهــزأ بدموعهــــــــا ،
لأنها عنـــدما كانت تصـــلي : كانت تروي بدموعهـــــــــــا
أرض المكان الذي تصلي فيه .
لقد اســتجبت لهـــا يا رب ، و أريتهـا تلك الرؤيا التي عزيتهــــا بهـــــــــا ،
و عندما تعزت سـمحت لي بأن أعيــــش معها ، و آكــل علي مائدتهـــــا
في ذلك المــــــنزل الذي كانــت قد بــــدأت
في كراهيته كارهة معه تجديفي و ضلالي …
لقد كانت رؤيــــــا أمـــي :
أنها وجدت نفسها جالسة علـي قاعـــــدة خشـبية ثابتـــــة ،
فلم يلبث أن ظهر أمامها
شاب مشـــرق بهيــــــــج يبتسم لها آخذاً في الاقتراب منها .
لقــــد كانت نفســــــــــــــــــها مكتئبــــــة غارقة فــــــــي الأحـــــــــــزان ،
حتى إذا ما سألها إنســـــــــان عن سبب حزنها و دموعها التي لا تنقطع ،
كانت تجيب أنها تندب هـــلاكي ......
من أين كانـت لأمي هذه التعزيـــات إلا منــــــك ،
لأن أذنيــك مالتـــا إلي قلبهـــــــــــا حقــــــــــــاً ،
لأنك صـالح جــــداً و قــــادر عـلي كل شــــــئ ،
يا مـــن تعتنــــــي بكـــــل واحــــــد منـــــــــــــا ،
كمـــا لـم يكـن لك أحــد آخـــر تعتنـي به غــيره ،
و تعتني بنا جميعاً كما لو كنا فرداً واحـــداً فقــط .
* * *
لقــد أخبرتني أمي برؤياهــــا فقـــلت لها :
إن تلك الرؤيا تعني أنه يجب عليها ألا تيأس ،
من أن تكـون ذات يــــوم حيث كنـــت أنـــا ،
فلم تلبــــث أن أجابتني في الحال و بلا أدني تردد :
كلا إننــــــي لم أُخــــبر بأنني سأكون حيث يكون هو ،
و لكنني أُخبرت بأنه حيثما تكونين أنت سيكون هو أيضاً .
و إن كان هذا لم يقــــلل من دموعهــــــــا ،
إذ لم تنقطـــع عن النواح إليك من أجلــي ،
فدخلــــــــــت صـــــلواتها إلي حضــــــرتك ،
و مـــــع ذلــك فقد سمحت لي بأن أكــون ،
محاطاً و غارقاً في بحــــــــار الظلمـــــــــة .
* * *
لم تكن وحدها إجابتك لأمي ، فقد أجبتها إجابة أخري......
لقـــــد أجبتهــــا في ذلك الوقت بواسطة أحــد خدامـــــك ،
و هـــو أسقف أمين تربي في كنيستك ،
و قــــد درس جيـــــــــــداً في كتبـــــك .
......
لقد أخبرتني أمي بأنه قال لها :
دعيه وحــــده ، و صـــلي إلي الله لأجـــــــــله
و سوف يعرف من نفسه حقيقة تلك الضــــلالة
و سوف يعرف بالقراءة ما فيها من إلحاد عظيم
......
و لكن أمي لم تقتنع بهذا بل زادت في إلحاحها عليه بتوسلات و دموع كثيرة عله يراني
و يتحدث معي ، حتى إذا أزعجته لجاجتها أجاب قائلاً لها :
انصرفي إلي سبيلك . الله يباركـــــــــــــك .
إنه غير ممكن أن يهلك ابن هذه الدمـــوع .
أية إجــــابة رائعـــــة حصلت عليهـــا أمي
- كما ذكـــــرت مــــــراراً في حديثها معي -
لقد كانت تعتقد أنها قد التقطها من السماء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق