الثلاثاء، 16 فبراير 2016

5- نطاق الجدران الأربع ــ كتاب انطلاق الـروح

5- نطاق الجدران الأربع ــ كتاب انطلاق الروح


أود أن أخبرك الآن :
أن الروحيات في الصحراء والجبل لها طابعها ،
الذي يختلف عن طابـع الروحيـات فى المدينـة ،
فمن أهم القيــود التي تتعب العـابد فى المــدن ،
وهي نطاق الجدران الأربع ..


ولقد جربت هذا بنفسي ،
كنت منذ سنوات فى معسكر فى ألماطه وهى بقعة صحراوية تقع على بعد أميال من ضاحية مصر الجديدة. وكنت متعوداً أنا وأحد أخوتي من مدارس الأحد أن نصعد على أعلى رابية فى تلك الصحراء لنقضى وقتا فى الصلاة والتأمل.


وكأنت مصر الجديدة، تلك الضاحية الفخمة فى مبانيها وشوارعها وتنظيمها وسكانها أيضاً، تظهر لنا على بعد كشئ ضئيل تافه على مرمى النظر فى خط الأفق . ولم يكن يبدو منها غير بعض أضواء بسيطة : لعاملين بسيطين هما عامل البعد وعامل الارتفاع .


وكنا نشعر ان روح كل منا انطلقت من احترام الطول والعرض والارتفاع ، والفخامة والضخامة . والتنميق و الترويق، وتساوى أمامها القصر العالي والبيـت الصغير، إذ لا يبــدو شئ من كليهما .
بل كنا نشعر بســعادة و لذة روحيــة ونحن جالســـان على الرمــل فوق تلك الرابيـــة المرتفعـــة ،
سعادة لم نجدها في المدن في يوم من الأيام .


وفي عطلة من المعسكر رجعنا إلي القاهرة وأقول لك الحق يا أخي الحبيب إنني انزعجت من هذه العاصمة الصاخبة. وكنت أسير في الشوارع وفي رأسي وأذني بركان ثائر من ضجيج الناس وصوت السيارات والترام ووسائل المواصلات المتعددة. وعرفت وسط هذا الصخب اننى لست بقادر أن أفكر تفكيراً منطقياً مرتباً متلاحقاَ، كما كنت أفعل فوق الرابية المرتفعة.


وعندما أغلقت علي باب مخـــدعي ووقف للصـــلاة،لم أســـتطيع أن أصــــلي ،
كأنت الجدران الأربع التي للغرفة بمثابة حاجر منيع يفصلني عن التمتع بالله .


و أقول لك في صراحة :
أنني خرجت من غرفتي دون أن أصلي وسرت بعيداً بعيداً أبحث عن فضاء هادئ مرتفع لا أري فيه أمامي الأبنية والمنشئات، وتصغر فيه نواحي العمران والمدينة، وبعد حوالي الساعة من السير وجدت مكاناً فيه شئ ضئيل مما أطلب، وهكذا رجعت إلي منزلي ضيق النفس مشتاقاً إلي رابيتي المرتفعة مرة أخري…


وانقضت أشهر المعسكر ورجعنا إلي العاصمة، ووجدت نفسي مضطراً إلي تعود الصلاة بين الجدران الأربع. ولكن ذكريات تلك الرابية المرتفعة ما زالت خالدة أمام عيني حتي اليوم، ولكي أحصل علي جانب من التعويض كنت – بعد أن أنتهي من درسي في مدراس الأحد، اصعد وأخوتي الشبان إلي سطح الكنيسة المرتفعة لنلقي نظرة علي القاهرة، فنراها أيضاً في ظلمة المساء شيئاً ضئيلاً لا تبدو منه أشباح أبنية تلمع فيها تلك النقط البيضاء المضيئة.


أن روحك يا أخي الحبيب تود أن تنطلق :
هي أيضاً كالطير من غصن إلي غصن ، تود أن تصير كالملائكة الذين يسبحون في السماء بغير روابط او قيود. وأن لم تستطع هذا باستمرار، فلا أقل من تهيئة فرص في بعض المناسبات…


ان هذا يجعلني أتخيل التأمل أغزر وأوفر بالنسبة إلي البحار والفلاح وسكان الجبل وساكن الصحراء.. ويخيل إلي أننا سنصير كذلك عندما نتخلص من نطاق الجسد ونصعد إلي فوق، حيث الله والملائكة والقديسون.


وقد تناولت هذا الموضوع مع أبي الراهب ، فحدثني عن اختبـــار روحي آخـــر،
حكي لي كيف انفرد في قلايته ثمانية وعشرين يوماً في مستهل حياته الرهبانية .
قابعــاً بين الجـــــدارن الأربـــــع، لا يـــــري أنســــــاناً ولا يتصـــل بإنســـــان ،
مجاهـــــــد في صـــــراع عنيـــــف بينـــــــه وبيـــــــن اللــه ونفســـــه ،
وكيف كأنت تلك الحقبــــة من الزمـــن فترة { غربلة } قاســية لنفســه ،
استطاعت فيها الروح ان تنطلق شيئا فشيئاً من قيودها الكثيرة إلي الله ،
وتغصب منه الوعود اغتصاباً...
وبعد ذلك خـــرج الراهـــب من قلايتــــه ،
وقد تساوت أمامه الجدران و اللاجدران…


وهنا أقدم لك في هذا الموضوع
مرحــلة من مراحـــل الروحــــانية أسمي وعمق .
كأنت المرحلة الأولي هي التبرم بالجدران الأربع ،
أما هذه فهي مرحلة عدم الإحساس بالجدارن الأربع ، حيث تجلس في غرفتك.
وتستغرق في صلاتك او تأملاتك أو قراءتك، حتي لا تعود تشعر بكل ما حولك ،


وإنما تعــيش في عــالم آخر يســـمو عــلي الحــس ،
لا تعرف فيه هل أنت في غرفتك أم في فضاء الدير ،
هـــل قلايتـــــك لهــــا جــــــدران أم لــــيس لهــــــا ،
بل أقـــول أنك في تلك الحالة لا تستطيع أن تمــيز ،
هل انتقلت إليك السماء وأنت علي الأرض ،
أم انتقلت وأنت علي الأرض إلي السماء ؟


بل دعني اهمس في أذنك يا أخي الحبيب :
أن هناك أشخاصاً لم يستطيعوا أن يدركوا – في حـــالات كـــــهذه –
هل هم في الجسد أم خارج الجسد كما حدث للقديس بولس الرسول ،


يتدرج بي هذا الموضوع ،
موضوع إنطلاق الروح من المكان إلي تأمل آخر متعلق به وهو { الرؤي }.


سمعنا في هذا المر من قبل عن اختيارات القديسين يوحنــا الحبيب والقديس بولس الرسـول ،
ويعوزنـــا الوقــــت أن أســـــــترجعنا اختبـــارات الأنبا انطونيوس والأنبا شـــــــــــــــــنودة ،
                                                             وغيرهمـــــــــــا من القديســـــــــــــــــــين ،
الذيـــــــن انطلقــــــوا مــــــن أماكنــــــهم ،
وعاشوا بالروح في أجواء وبيئات أخــري،
رأوا فيها أشياء عجيبة لا ينطــــق بهــــا.


أنما أذكر هنا قصة رواها لي أحد إخوتنا الأحبـــاء عن كاهن ممتـــلئ بالـــروح ،
                       كان واقفاً يصلي في المذبح فلما وصل في صلاته إلي عبارة ،
                      { ورفع نظرة إلي فوق.. } رفع نظره هو أيضاً ،
وسادت الكنيسة فترة من الصمت العميق، ومرت دقيقة ودقيقتان ودقائق كثيرة ،
والكاهن القديس ناظر في صمت إلي فوق في دهشة وذهول ، وطال الوقت جداً  ،
والشعب يتأمل كاهنـه المبـارك في صـمت ، وبعد فـترة أخفــض الكـاهن بصــره ،
وأكمل صلاته في عمـــق وحـــرارة دون ان يحــس فترة الصمت التي مــرت به ،
ولما اخبره احد خواصه – بعد القــداس – بما حـدث وطـلب منه إيضــاح الأمـر،
اضطرب ولم يحب ، ولما كثر عليه الإلحاح قال  :
انه نظر إلي فوق فإذا بالكنيسة وكأنها بلا قبة ولا سقف ،
وإذا به يتــأمل سـلماً طويـــلاً يصـــل المذبــح بالســماء .
فتأمله لحيظات كأنها جزء من الدقيقة ثم أكمل صلاته …


يتحدثون بعد ذلك عن الرهبنــة كطــريق إلي الخدمــــة ،
ومـــــا أري الرهبنــــــة الا طــــريقاً إلي الســــــــــماء ،
تســــاعد فيه الخــــلوة والتأمـــلات والجهــاد المستمر ،
عــــــلي دوام انطـــلاق الــــروح حـــــتي تتحـــــد بالله .


يخيل إلي يا أخي الحبيب :
أن هنــــاك أشـــياء لأقولهــــا له في هـذا الموضـــوع .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق