14- اعرف ذاتك ـ كتاب انطلاق الروح
هل تود أن تكون كاملاً يا أخي الحبيب ؟
وهل تريد أن تنطلق روحك انطلاقاً إلي حيث لا قيود ولا حدود ؟
إذن فعليـــك قبـــل كل شئ ، أن تفـــرغ ذاتــــك مــــن كل شئ :
من كل ما أرسبه فوقك العالم من رغبات وعلوم وأحاســيس ..
. عليــــك أولاً أن تنكـــر ذاتــــك ، وأن تقف أمام الله كــلا شيء
اعــــــرف نفســــك بالحقيقيـــة ، من أنـــــت ؟
بل أنت أقل من تراب ،
، أنت عدم، لا شئ مر وقت لم تكن فيه موجوداً
، ومع ذلك كان العــالم عالمــــاً، من غـــــــيرك
ثم كونك الله اذ لم تكن :
علام إذن ترتفع، ومن أنت حتي ترتفــع ؟
. اخفــــض راســــك في خجـــــل وذلــــة
. فأنت عــــــدم
: وقف أمام الله
، من انكسار نفسي وانسحاق روح
. ذاكـــــــراً أصـــــــــلك القــــــــديم
هل عرفت أنك عدم ؟
بل أصارحك أيضاً انك أقل من عدم .
إذ أن { تصور قلب الإنسان شرير كل يوم } { تك5:6 }.
فإن وجدت فيك شيئاً صالحاً، تيقن تماماً أنه ليس منك،
بل هو من الله الكلي الصلاح، والكامل القدوس وحده،
{ لأنه ليس احد صالحاً الا الله وحده } { مت 17:19 } .
إن وجدت فيك شيئاً صالحاً :
فلا تنتفخ ولا تتفاخر، ولا تحارب نفسك بالبر الذاتي ،
وإنما أرجع المجــد لله، لأنه هو المستحق وليس أنت ،
فالله هو الذي صنع الخــير، لأنه صــــانع الخـــيرات ،
بل لأنه الخير ذاتــه، وهو الصــــلاح ذاتـه ،
وأنت بدونه فناء لا تستطيع أن تعمل شيئا .
فلا تســــرق مجـــد الله وتنسبه لنفســــــك .
وإن احتجبــــتت عنــــه الشــــمس لا يظهــــــر منه شــــــئ لان مظــــــلم بطبيعتــــه .
هكذا أنت أيها الحبيب أمام الله .
أما أن وجدت فيك شراً فاعرف انه منك ، من الخطية الرابطة التي اشتقت إليها.
وكنت تسود عليها فسادت عليك { تك 4 } لأنه ليس شر من قبل الله.
الله الذي لا ينفق الشر مع طبيعته والذي بعد ان عمل كل شئ بيديه الطاهرتين اللتين بلا عيب ولا دنس
{ نظر إلي كل ما عمله فإذا هو حسن جداً } .
هل عرفت ذاتك يا أخي الحبيب ؟
وهل أدركـــت ان إنكــــار الــذات هو القــــاعدة الأســـاسية لعـــلاقتك مع الله ؟
لست أقصد أن تعتبر ذاتك شيئا تتواضع فتنكره، لأن ذاتك لا شئ، عدم وفناء .
ولست أحب ان استعمل كلمة{ تواضع } :
لأن المتواضع هو :
الكائن الذي يتنازل من مكانه إلي درجة أقل ارتفاعاً وأدني عليه ان يتواضع سموا .
أما إنسان حقير مثلي ومثلك، كان تــــراباً وعدماً، مســـــتحيل عليـــه أن يتواضع ،
إذ لسيت له درجة حتي يرفضها، أو كرامة حتي يتخلي عنها .
وليــس هـــو مرتفعـــاً حتي ينزل، أو ســـــامياً حتي يتضـــع .
وإنما كل ما أقصده من إنكـــــار الــــــذات يا أخي المحبوب هو :
أن تعرف ذاتــــك، فتــــدرك أنه لا قيمـــــــة لك علي الإطـــــلاق .
وإنما هو الله الذي يتحنن عليك فيهبك ان أحببته، شيئاً من مجده ،
دعنا نتدارك إذن فنتأمل تلك الآية الجميلة التي تقول :
{ أختار الله جهـــال العالم ليخــــــزي الحكمـــــــاء . واختــــار الله ضعفـــاء العالم ليخــزي الأقويــاء .
واختار الله أدنياء العالم والمزدري وغير الموجود ليبطل الموجود لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه }
{ 1كو1: 27- 29 } .
فكيف التوفيق بين الأمرين؟
ليس المقصود إذن ان الله لا يختار الا جهال والضعفاء والمحتقرين، بل لعل المقصود هو الله – تبارك أسمه – يختار الأشخاص الذين مهما بلغوا من علم أو قوة أو كرامة، يقفرون أمام، كجهال وضعفاء محتقرين.
ومعتمدا علي قوته البشرية . ولكنه دعاه عندما وصل إلي الدرجــة التي قــــال فيها :
لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أول من أمس ولا من حين كلمت عبدك .
بل أنا ثقيل الفم واللسان } { خر3: 11، 4: 10 }.
لم يرسله الله الا عندما وصل إلي الحالة التي يستطيع أن يقول فيها :
{ لأنه مكتوب سأبيد حكمة الحكماء وأرفض فهم الفهماء. أين الحكيم.
أين الكاتب . أين مباحث هذا الدهر. ألم يجهل الله حكمة هذا العالم..
وأنا كنت عندكم في ضعف وخوف ورعدة كثيرة وكلامي وكرازتى
لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع بل ببرهان الروح والقـــوة }
{ 1كو1: 19،2، 3، 4 } .
و أرسانيوس لم يجعله الله أباً ومرشداً، عندما كان معلماً للاميرين اركاديوس وهونوريوس في قصر أبيهما الإمبراطور ثيئودسيوس.بل عندما تنقت روحه, اصبح في أمكانه ان يقول عن نفسه :
الحق أقول لك :
ان لم تنطلق من اعتمـــادك علي معرفتـــك فلن تصــل إلي الله ، ولن يــبارك الله لك في خدمـــة .
لأنك ان نحجت فسوف ينسب الناس نجاحك إلي ما وهبه لك العالم من شهادات وإجازات علمية،
وهكذا يسلب من الله مجده ويعطي للعالم.
الله – يا أخي المتعلم – قادر في القرن العشرين أن يذهب إلى البحيرة من جديد ،
ويختار صياداً جاهلاً لكي يقيمه رسولاً وكاروزاً . فيعلــم الناس خـــــيراً منـــــك .
وإنمـــا عصــــا بســـيطة توجـــد ملايـــين مثيلاتها في العالم .
فحاذر أن تظن في نفسك أنك شئ، أو أن تغــــتر بثقافــــة العـــــالم .
وحاذر – حتي في حياتك الخاصة – أن تعتمد علي معرفتك العالمية
او الدينية أو قــــراءاتك الروحيــــة او خـــــبرتك القديمـــــة .
وإنما كلمــــا ازددت علمـــاً ، وكلمــا تعمقـــت في الروح ،
قف كل يوم أمــــام الله وأنــــت شــاعر بجهــلك وعجــزك ،
وأنت محتاج إليه ليرشدك، كمبتدئ، مهما كنت قديم الأيام .
ليكن لك هذا الشعور . لأني رأيت كثيرين
بعد أن قرأوا وكتبوا عن عمق الروحيات يسقطون خطـــايا المبتدئين ..
وأقول لك هذا أيضاً خوفاً من أن ثقتك بعلمك الروحي وخبرتك الروحية.
تجعلك تعتمد علي ذراعك البشري،{ ومعلون من يتكل علي ذراع بشر }.
واعلم يا أخي الحبيب :
أن كل علم روحي أو عالمي لا يقودك إلي حياة الانسحاق وإلي الشعور بالجهل ،
يصرفك بها عن أن تسأل وتطلب وتقرع الباب ..
{ إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر،
فليصر جاهلاً لكي يصير حكيماً } {1 كو18:3 }.
وكما لأنه أمام الله يتساوي الحكيم والجاهل في إنهما كليهما جاهلان وأن موت هذا كموت ذاك، ونسمة واحدة تهب علي الاثنين، كذلك أمام الله يتساوى الضعيف والقوي لأنهما كليهما ضعيفان، اذ ليست هناك قوة لحد في حضرة الله.
هل تعتقد يا صديقي أنك قوي؟
إذن فمــن أين أتتك القـــوة أنها ليسـت من ذاتـــك طبعــاً لأنك تـراب ورماد، بل عـدم وفنـاء .
وهي ليست من كانئ آخر غير الله. لأنه – تبارك اسمه هو وحده القوي، ومنه تستمد كل قوة.
فهل قـوتك أذن من الله؟ أم كان الأمر كذلك فلمــــاذا تفتخـــر ؟
ولمــــاذا تتصــــلف ؟ ولماذا تستخدم قوة الله في غير ما لله ؟
أذن فإن افتخر احد فليفتخر بالرب، لأنه – تعالي في مجده –
مصـــــدر كل شـــــئ يدعــــــــو إلي الفخــــــــــــار،
وإن كنت أيها الإنسان الضعيف بطبيعتك قوياً بالله،
لذلك أسر في الضعفات.. لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قــــــــــــوي}
{ 2 كو9:12،10 }.
الشخص الذي يعتقد في نفسه أنه قوي لا يستخدمه الله.
لن الله يختار ضعفاء العـالم ليخـــــزي بهم الأقويــــاء ،
فحاذر أن تثق بقوة مزعومة لك . لأن الخطية :
{ طرحت كثيرين جرحي، وكل قتلاها أقوياء }.
{ ارحمني يا رب فإني ضعيف، اشفني يارب فإن عظامي قد أضطربت، ونفسي قد انزعجت جداً } .
تأكد يا أخي من ضعفك، ليس لأني قلت هذا وإنما لأنها الحقيقة الواضحة. الم تسقط اليوم وتخطئ ؟
ألم تخطئ أمس وقبلا من أمس؟ لست قوياً أذن، بل ضعيفاً ومثالاً للضعف.
وستظل كذلك حتي تعترف بضعفك . وتسرع وتثبت في الآب والآب فيـــك .
نصيحة أخري أهمس بها في أذنك :
لا تجلس في خلوتك وتظن أنك أقوي من الناس ،
وتستعرض المشروعات العظيمة التي يمكنك القيام بها لو أعطيت لك سلطة ،
أو لو كنـــت فـــــــي مكــــان الآخـــــــرين .
أنك لســــت قويـــاً يا أخي بهـذا المقــــدار ،
وما هذه الا أحلام اليقظة ، او لعله الغرور .
أما أنت فضعيفى ، وربما لو كنت في مكان أولئك الخطاة الذين تنتقدهم ،
لأخطـــأت أكثر منهـــم ، ولأظهــــرت ضعفــــا أكــــثر مـــن ضعفهــــــم .
ان كنت قــد انتصــــرت في المــــاضي أو تنتصـــر الآن ،
فسبب ذلك هو وجود الله معك ، وليس السبب أنك قوي .
احتفظ إذن ببقاء الله معك ،
عالماً انه لن يرضي بالبقاء طالما أنت تعبد ذاتك بدلا منه.
واحد من أثنين يعمل في الميدان:
أما الله وأما أنت .
إن كنت تعتقد أن الله هو الذي يعمل ،
وأنــــــك لا شـــــئ إلي جــــــــواره ،
بل أنك متفرج تنظر إلي أعمال الله في إعجاب ،
إن كنــــت تعتقــــد هــــذا فحســــناً تفعــــــل .
أما أن كنت أنت الـــذي تعمــل .
وأن لك القوة ما يكفك لك ذلك ،
فثق ان كل ما تعمله باطل هو، وستفشل فيه.
لست أقول هذا عن خدماتك وأعمالك الخارجية، وإنما عن صميم حياتك الروحية أيضاً،
وإن اعتقدت أن خطيــة ما لم يعد لهل سلطان عليــك ،
فقد تسقط فيها ولو بعد حين، ويكون سقوطك عظيماً…
لولا أن الرب كان معنــــا حين قام الناس علينا ،
لابتلعونا ونحن أحياء، عند سخط غضبهم علينا }
{ مز 123 }
وهكذا تصرخ إلي الله، ثم تنظر كيف يحارب عنك وينتصر ،
فتمجد الله وليس نفســك، لأن النصـــرة كانــت من عنـــده .
وأخيراً، اشعر أن هناك أشياء كثيرة لنتحدث عنها معا في هذا الموضوع ،
فاذكرني يا أخي الحبيب في صلاتك حتي نلتقي مرة أخري ونكمل تأملنا ،
أن أحبت نعمة الرب وعشنا ....
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق