مدونـة رئيــس الملائكــة رافائيـــل

بسم الآب والابن والروح القدس اله واحد امين : مدونة رئيس الملائكة رافائيل ترحب بكم : افرحوا فى الرب كل حين واقوال ايضا افرحوا (فيلبى 4:4)

السبت، 28 نوفمبر 2015

حياة الانبا انطونيوس كوكب البرية

حياة كوكب البرية

النشأة الصالحة:

ولد الأنبا أنطونيوس حوالى عام 251 م، فى بلدة تسمى قمن العروس (إحدى قرى بنى سويف).. من أبوين تقيين مسيحيين فى عهد داريوس الملك، و قد اعتنيا والداه كل الإعتناء بتربيته و تهذيبه، حسبما تقتضى الوصايا الإلهية واضعين نصب أعينهما قول الحكيم:

" رب الولد فى طريقه فمتى شاخ أيضاً لا يحيد عنه،

أبو الصديق يبتهج ابتهاجاً و من ولد حكيما يسر به " (أم 23: 24).

حقا، ما أحلى التربية وقت الصغر، و ما أعظم التهذيب فى الحداثة، إن البيت هو المدرسة الأولى التى يتلقن فيها الطفل ما يكفى لصقل شخصيته و اظهارها إما فى صورة ملك جليل، أو فى هيئة شيطان رذيل!!..

ما الطفل.. إلا وديعة طاهرة نتسلمها من الرب فإذا بواجبات تفرض على أبويه إزائه.. هو عجينة لينة تصاغ كيفما نريد.. منها نصنع تمثالاً عجيبا جميلاً.. و منها نصنع شكلا مخيفاً قبيحاً..، فاذا فلتت الفرصة من والديه فعليهم أن يقدموا حساب و كالتهم..!.

  من أمثلة العهد القديم أم موسى النبي، التى سقت أبنها فى سنى حياته الأولى لبن الأيمان مع لبن ثدييها، و هذبته حسب مخافة الله، و مع أنه لم يبق مع أمه سوى سنى الطفولة الا أن أربعين سنة كاملة سلخها فى قصر فرعون لم تكن لتغير من خلقه أو تحوله ولو قيد أنملة عما تشبع به وقت الصغر!!.. و ليس أدل على ذلك من أنه لما كبر " أبى أن يدعى أبن إبنة فرعون مفضلاً بالحرى أن يذل مع شعب الله من أن يكون له تمتع وقتي بالخطية "..

و ما الخطية هذه فى نظر موسى النبى ؛ هى شعوره بتميزه فى معيشته عن بقية أخوته العبرانيين.. الذين نظر إليهم فى أثقالهم وذلهم على يد المصريين..

ثم نراه يدافع عن العبراني الذى من جنسه و يقتل المصري و يطمره فى التراب.

عرف بولس الرسول قيمة التربية والتهذيب فى الصغر فقال يمتدح تلميذه تيموثاوس:

" إنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكمك للخلاص بالأيمان الذى فى المسيح يسوع " (2 تي 3: 15).

و كم يدرك الآباء و الأمهات عاقبة الإهمال و سوء التربية فى وقت الصغر عندما يعرضون لحياة عالي الكاهن الذى قضى لإسرائيل أربعين سنة (1 صم 4: 18).. لقد أهمل تربية ولديه حفني و فنحاس اللذين سارا على حسب أهوائهما و عبثا ببيت الله، واذ أراد عالي ردعهما فى وقت الكبر لم يستطع الى ذلك سبيلاً و عندئذ جاءه رجل الله و قال له:

" هكذا يقول الرب لما تدوسون ذبيحتي و تقدمتي التى أمرت بها فى المسكن و تكرم بنيك على لكى تسمنوا أنفسكم بأوائل كل تقدمات إسرائيل شعبى، لذلك يقول الرب إله إسرائيل إني قلت إن بيتك وبيت أبيك يسيرون أمامي إلى الأبد والآن يقول الرب حاشا لي، فإني اكرم الذين يكرمونني و الذين يحتقرونني يصغرون هوذا تأتى أيام اقطع فيها ذراعك وذراع بيت أبيك حتى لا يكون شيخ فى بيتك وترى ضيق المسكن فى كل ما يحسن به الى اسرائيل... وهذه لك علامة تأتى على ابنيك حفني و فنحاس فى يوم واحد يموتان كلاهما و أقيم لنفسي كاهناً أميناً يعمل حسب ما بقلبي و نفسي و ابنى له بيتاً أميناً فيسير أمام مسيحي كل الأيام ويكون ان كل من يبقى فى بيتك يأتي ليسجد له لأجل قطعة فضة و رغيف خبز!. " (1 صم 2: 27 – 36).

+ كبر أنطونيوس قليلاً و ما كاد يتم دور الطفولة حتى كان قد تعود على الذهاب الى بيت الله للصلاة فى كل أوقات العبادة، دخل الكنيسة فطبعت محبتها فى قلبه و قال حقا :

" ان الوقوف على عتبة بيتك خير من الجلوس فى خيام الأشرار " (مز 84: 10). سمع كلام الحياة فقال ما أحلاه.. نظر إلى الصبية أترابه ورأى طريقهم المعوج فابتعد عنهم مؤثرا العزلة عالما أن:

" المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة " (1 كو 15: 33).

وقد وهبه الله حكمة وفهما عظيمين حتى أنه كان يحفظ كلام الله بمجرد سماعه!.

يقول عنه القديس أوغسطينوس:

" إن انطونيوس الراهب المصرى الذى كان رجلاً قديساً قد تعلم عن ظهر القلب كل الكتب المقدسة لمجرد سماعه الآخرين يقرأون وقد فهم كنة معانيها بالتأمل

و الأفتكار فيها مليا ".

و هكذا كان أنطونيوس :

" ينمو فى النعمة وفى معرفة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح " (2 بط 3: 18).



قسوة الحياة!!:

" إن فرح العالم ليس فيه شىء يعتبر راهناً ثابتاً و لكنه زائل جميعه ، و هو يشبه النهر الذى يجرى عند انسكاب الأمطار على الأودية فيظن من يراه أنه ثابت يدوم و هو بالحقيقة نهر مستعارة مياهه وتنتهى بغتة مع إنتهاء المطر!. "

(يوحنا ذهبي الفم).

 ما أن وصل الفتى أنطونيوس إلى الثامنة عشر من عمره حتى تعرض لتجربة وفاة و الده! وهنا كانت الصدمة! بل هنا كانت التجربة..

انه يافع صغير و له أخت أصغر منه،.. ولم يعتد مثل هذه الآلام، كما أنه لا يقوى على تحمل أعباء العائلات بعد، فماذا يفعل أنطونيوس؟..

لم تزده التجربة إلا إيماناً و ثباتاً و رسوخاً

و لم يكد يفيق من تجربة رحيل والده حتى انتقلت والدته أيضاً، فحرم من الإثنين.. وعندئذ ازدوجت التجربة! نظر فإذا به وحيدا ليس له فى البيت سوى أختا صغيرة..

حرم من والده ؛ فحرم من التربية الأسرية و النصائح و الإرشادات، و وجد هذه الجوانب فى عطف والدته ومحبتها ورعايتها له ولأخته، ثم شاءت الأقدار أن يحرم من والدته أيضا.. فأصبحا وحيدين، إلا أن احساسهم بأبوهم السماوي لم يفتر.. وكذلك عوضتهم الكنيسة وارتباطهما بها عن حنان الأم وعطفها.. بل زادت عن الأم الجسدية بالبركات الروحية، وكأنى بأنطونيوس وأخته يناجيان أباهما السماوي

" إننا نعلم أن اسمك برج حصين يركض إليه الصديق و يتمنع " (أم 18: 10).

إن القديس أنطونيوس فى صدمته هذه يرينا كيف يجب على المؤمن الحقيقي أن يقبل التجربة بشكر دون أن تفل من عزمه أو أن تؤثر فى إيمانه إذ:

" كثيرة هى بلايا الصديقين ومن جميعها ينجيهم الرب " (مز 34: 19).. "

.. لأننى حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوى " (2 كو 12: 9، 10).

فى صفحات التاريخ نجد أن أعظم الرجال قد اجتازوا بين الضيق والألم

فايديسون مخترع الكهرباء باع الجرائد والمجلات فى الشوارع والطرقات!!

و ملتون الشاعر العظيم كتب أبلغ قصائده بعد أن فقد بصره!

و بيتهوفن وضع أعظم مقطوعة موسيقية وهو أصم!!

 و من شخصيات الكتاب المقدس:

  أبونا يعقوب.. رأى باب السماء عندما كان هاربا وبلا مأوى من وجه أخيه عيسو.. وتحمل مشقة العمل مع خاله لابان لمدة أربعة عشر عاماً من أجل راحيل المحبوبة.

   و يوسف الصديق.. قبل أن يكون الرجل الثاني فى بلاط فرعون.. الذى أدار منطقة الشرق الأوسط فى سنوات القحط والجوع.. واجه اكثر من تجربة.. من تجربة إلقاءه فى بئر مهجور بيد أخوته، إلى بيعه للإسماعيليين كعبد.. إلى رميه فى السجن بسبب ظلم زوجة فوطيفار له..

    لقد غرس الله بذور الدموع فى الأرض ليخصب بها مادة حياتنا، إنه يحق بنا أن نشبه الألم واللوعة والحرمان و الإضطهاد بجواهر ثمينة مختلفة يزدان بها تاج حياتنا.. إن التجربة هى للإنسان كالبوتقة للذهب تمحصه وتنقيه وتقوى الرابطة بينه وبين إلهه، وحينئذ يناديه الرب من وسط التجربة قائلاً:

" لا تخف لأنى افتديتك، دعوتك بإسمك أنت لى، إذا اجتزت فى المياة فأنا معك، وفى الأنهار فلا تغمرك، إذا مشيت فى النار فلا تلدغ واللهيب لا يحرقك لأنى أنا الرب إلهك قدوس اسرائيل مخلصك " (أش 43: 1 – 3).

و يسوع الذى تألم مجرباً يقدر أن يعين المجربين فى تجاربهم

 و كما أن الزيتون لا يخرج زيته اللذيذ الطعم الذكي النكهة إلا بعد عصره، هكذا المؤمن لن يصل إلى الكمال إلا بعد أن يعصر تحت الآلام.. هذه هى فوائد الألم، والمسيحيون الذين جازوا فى التجارب وخرجوا منها بروح شكر، يشهدون لهذه النتائج المباركة يقولون لنا إنهم لا يمكن أن يؤمنوا إلا بعد التذلل، والآلام لها الفضل فى تحريرهم من خداع العالم وفك طلاسمه عن قلوبهم، لها وحدها الفضل فى تجديد الأمور الروحية إلى نفوسهم، وبطبيعة الحال مثل هذه الإختبارات لا يمكن أن تكون نتيجة غضب الله بل محبته، ومهما يكن من حدة اللهجة التى يخاطبنا بها الله فإن صوته صوت أب ووراءه قلب أب، وكل القصد منه أن يدفعنا للإحتماء به و الألتجاء إلى شخصه، و الله الذى يعد الدودة و هو يستعمل كليهما فى بناء الأيمان فى القلب البشرى.



  نظر الفتى أنطونيوس إلى الحياة ومباهجها بعد فقد والديه فإذا بها سراب وخيال.. ولم ينفع الغنى والثروة التى يمتلكها والده فى أن تمنع الموت، أو تعطى السعادة للإنسان.. و نظر و تأمل فى كل شىء حوله فلم يرى من الحياة سوى:

" شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة والعالم يمضى وشهوته "..

برغم أن والده ترك له ثروة كبيرة إلا أنه:

+ كان ذا قلب مفتوح، ذو بصيرة روحية، حتى أنه لما شهد جثمان أبوه، ناداه " أنت خرجت من العالم مرغماً، أما أنا فسأخرج منه بارادتي! ".

أنطونيوس و المال:

" ما أعسر دخول ذوى الأموال المكتلين على أموالهم إلى ملكوت الله! "

(مر 10: 24)

" لأنه لا يمكن للإنسان أن يخدم سيدين الله و المال!!. " (مت 6: 25).

انتقل والدا أنطونيوس و تركاً له ثروة طائلة إذ كانا من أغنياء عصرهما، ترى هل ينمى هذه الثروة و هو يدرك :

" أن المال أصل لكل الشرور الذى اذا ابتغاه قوم ضلوا عن الأيمان و طعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة؟! " (1 تي 6: 10)..

كم كان يخشى الفتى أنطونيوس أن تكون هذه الأموال سبباً لفقد حياته الروحية الهادئة والنامية.. هل احتفاظه بالمال يتفق مع رغبته فى الوحدة و الإنفراد و العبادة؟

أليس الإحتفاظ بالمال دليل على أنه مازال ينظر إلى الحياة و ملذاتها و مباهجها!

كان اتجاهه للوحدة و العبادة أقوى من كل إغراء..

إن أشد ما كان يقلقه هو مصير و مستقبل أخته فى هذه الفترة من حياته..

و لكنها هى الأخرى توافقه على رغبته وتود أن تنذر نفسها للرب!..

بقى بعد ذلك كيفية التصرف فى ماله، لقد كان يدرك تماما قول السيد المسيح:

".. لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بل اكنزوا لكم كنوزا فى السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ وحيث لا ينقب سارقون ويسرقون لأنه حيث يكون كنزك يكون قلبك أيضاً " (مت 6: 19 – 21)..

و أيضاً وضع أمام عينيه قول السيد المسيح له المجد:

".. لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون.. لكن إطلبوا أولاً ملكوت الله وبره، وهذه كلها تزاد لكم " (مت 6: 25 – 33).

كان متأثراً بتلك الروح الواحدة أيام الرسل عندما كان الناس يبيعون حقولهم و بيوتهم ويأتون بأثمان المبيعات و يضعونها عند أقدام الرسل، فكان يوزع على كل

و احد كما يكون له إحتياج،

تلك التعليمات الثمينة التى لمخلصنا الصالح.. و أعمال الرسل.. و تعاون المسيحيين الأوائل فى أمورهم المادية.. كانت نصب عيني الشاب أنطونيوس.

اضافة لذلك قول السيد المسيح:

" ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه،

أو ماذا يعطى الإنسان فداء عن نفسه؟! " (مت 16: 26).

كم كان المال سبباً فى هلاك كثيرين و فقدهم لحياتهم الأبدية!

يفقد الإنسان أقرب الناس له بسبب الطمع ومحبة المال.. خاصة ما يتعلق بالأعمال التجارية أو بالميراث..، وفى العهد القديم نجد أمثلة كثيرة لهلاك أناس أحبوا المال.. مثل:

عخان بن كرمي.. الذى أخذ لنفسه رداء شنعاريا نفيسا و مئتى شاقل فضة ولسان ذهب وزنه خمسون شاقلاً، وطمرها فى خيمته..، و النيجة لم يتمكن بنو اسرائيل من الثبوت أمام أعدائهم " (يش 7: 11، 12). وكانت نهايته أن رجمه جميع الإسرائيليين مع ماله وبنيه وبناته وبقره وحميره وغنمه وخيمته.. وأحرقوهم بالنار وأقاموا فوقه رجمة حجارة عظيمة!!

و جيحزى تلميذ أليشع النبى: اذ ركض وراء نعمان السريانى مسرعاً وأخذ منه و زنتى فضة فى كيسين و حلتي الثياب ثم أودعهما فى بيته دون علم سيده.. كان حكم أليشع النبى أن يلصق به برص نعمان السرياني هو ونسله إلى الأبد

(2 مل 5: 25 – 27).

و فى العهد الجديد مثل الغنى الغبى:

الذى شعر بوفرة محصوله وكثرة خيراته، فأراد أن يبنى ويوسع من مخازنه.. (ليس لغرض معاونة الفقراء والمحتاجين.. أو لخدمة الكنيسة).. إنما ليستريح ويأكل ويشرب ويلهو.. ظاناً أن عمره طويل، فسمع ذلك القضاء المحتوم:

" يا غبى فى هذه الليلة تطلب نفسك منك.. فهذه التى أعددتها لمن تكون؟! ".

و حنانيا و سفيرة: إذ أرادا أن يوفقا بين السير حسب قانون التلاميذ الأولين وبين حبهما للمال، باعا ملكا و إختلسا من الثمن و أتيا بجزء ووضعاه عند أرجل الرسل،.. فكانت النتيجة موتهما عند أرجل الرسل وأمام الجميع. (أع 5: 1 – 12).

  صلى الشاب أنطونيوس إلى الله أن يرشده، و فى يوم الأحد ذهب إلى الكنيسة و هو واثق بأن الله سوف يرشده إلى الطريق الصحيح.. لقد كان الإنجيل فى ذلك اليوم عن الشاب الغنى الذى ذهب إلى رب المجد مستفسراً عما يوصله إلى الحياة الأبدية،.. قال له السيد المسيح:

" إن أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع أملاكك واعط الفقراء فيكون لك كنز فى السماء وتعال اتبعني "

  أدرك انطونيوس أن ذلك الشاب أصبح ضحية للمال الذى إستهوته محبته..،

كما سمع أيضاً – عن أوجه البر التى يجب أن تصرف الأموال فيها – وأهمها قول السيد المسيح لتلميذه القديس بطرس:

" كل من ترك بيوتا أو أخوة أو أخوات أو أبا أو أما أو امرأة أو أولادا أو حقولا من أجل اسمى يأخذ مائة ضعف ويرث الحياة الأبدية " (مت 19: 29).

  إذ اعتبر انطونيوس من هذه الرسالة جواباً من الله لطلبته و كشفاً منه تعالى عن الطريق المستقيم، خرج من البيعة و قد وطد العزم على السير حسبما سمع حرفيا حتى لا يحرم من الكنز السماوي!

ما أعظمك يا أنطونيوس فى ثقتك بإلهك! و ما أحوجنا إليك الآن لتلقى على أغنيائنا عظة صامتة، علهم يستطيعون تحديد موقفهم بإزاء المال حاسبين

– مع الرسول – كل شىء نفاية، ليربحوا المسيح!!. (فى 3: 8 ).

  لا يجب أن نستصعب موقف هذا القديس، لأن محبة الله ملأت قلبه.. لننظر إلى الأرملة الفقيرة، التى انتظرت حتى ألقى الجميع عطاياهم.. ثم تقدمت هذه المسكينة ماديا – الغنية روحيا – وألقت " فلسين " فى الخزانة؟ هوذا الرب يكشف الستار عما فعلته ويقول: " الحق أقول لكم إن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا فى الخزانة! لأن الجميع من فضلتهم ألقوا وأما هذه فمن أعوزاها ألقت ما عندها، كل معيشتها!! ". (مر 12: 43، 44).



و زكا العشار حصل على الخلاص هو و أهل بيته عندما أعطى نصف أمواله للمساكين، ورد أربعة أضعاف للذين أوشى بهم.. وربما يكون قد استدان لسداد هذا التعهد!

  أجل.. إن الذى لا يقو على العطاء فى وقت الفقر لايمكن أن يعطى فى حالة الغنى، والذى لا يقدم لله اليوم من ثروته الصغيرة، يزداد بخلاً و جشعاً و محبة للمال غدا إذا نمت ثروته و أصبحت كبيرة!!



2- كوكب البرية

هجر العالم:

  انتهى انطونيوس من توزيع أمواله ومقتنياته على الفقراء والمساكين، وصمم على ترك العالم وهجر الحياة الدنيا ذاكرا أن: " محبة العالم عداوة لله ".

  قام بضم شقيقته إلى أحد ديارات الراهبات (* من الثابت تاريخيا أن ديارات العذارى قد وجدت منذ العصر الرسولي – أى أنها سبقت أديرة الرجال) – وما أقسى تلك اللحظة التى ألقى انطونيوس فيها نظرة الوداع على شقيقته.. كانت لحظة قاسية على الطرفين.. لقد حرما من والديهما، و هاهما الآن يفترقان.. ليس من اليسير أن تصبح فتاة صغيرة بين عشية وضحاها محرومة من رؤية شقيقها ومن عطفه و محبته، الآن يجمعهما محبتهما للسيد المسيح الفادي.. و تجمعهما روح العبادة.. و يجمعهما جوهر المحبة الخالصة.

اختلى انطونيوس وذهب يطلب الله فى البرية.. لقد كان هناك أناس آثروا العبادة على الإنغماس فى أمور الحياة الفانية.. و كانوا يقطنون أطراف المدن ملازمين على العبادة، ويقتاتون من عمل أيديهم... لعل الأنبا أنطونيوس قد مر على هؤلاء واحدا بعد الآخر ليرى نظرة كل منهم للحياة وليدرب نفسه على التقوى العملية.

استقر انطونيوس فى بداية حياته الرهبانية عند أحد الشيوخ الوقورين.. هذا الشيخ هجر الدنيا منذ صباه، وقضى أغلب سنى حياته فى تلك العزلة الجميلة، جاءه انطونيوس يريد أن يتتلمذ له.. لا شك أن هذا الشيخ بين له وعورة الطريق ومتاعب العزلة، ولكنه إذ رأى إصرارا من الفتى لم يكن بد من قبوله.



لقد تحصن أنطونيوس فى مشواره الروحي بأسلحة روحية هامة.. مثل:

أولا : الصلاة

   كان يصرف الليل كله فى الصلاة.. كان يعلم أنها أول الأسلحة التى سوف ينتصر بواسطتها، هى حبل الإتصال بينه وبين خالقه..

" فكل ما تطلبونه فى الصلاة مؤمنين تنالوه! ". (مت 21، مر 11).

لقد أوصانا رب المجد قائلاً: " صلوا كل حين ولا تملوا " (لو 18: 1).



ما أعظم قوة الصلاة.. هى مفتاح السماء، بها استطاع إيليا أن يغلق السماء ويفتحها.. بالصلاة حول دانيال الأسود المفترسة إلى حيوانات مستأنسة..

بالصلاة انكسرت أقفال السجن وخرج بطرس وانفكت قيوده الحديدية.. كما تزعزعت أمام صلاة بولس أركان السجن وفتحت أبوابه العالية القوية!

الصلاة هى وليمة الكنيسة و هى حياة الملائكة

الصلاة هى صدى صوت حياة المسيحي مرتدا من الأرض إلى السماء

الصلاة هى مخزن القوة المقتدرة و ملجأ الخاطىء الأثيم

الصلاة هى المن السماوى الذى يشبع و ينعش و يبهج

الصلاة هى طريق المجد فى الفلك الروحي و هى عصفور الجنة

الصلاة.. هى نواقيس الكنيسة يدوى صوتها إلى ما وراء السحب!!

إذا كانت تلك بعضا من قوة و بركات الصلاة.. فعلينا أن نتقدم للرب بصلوات حارة بروح الإنسحاق، وقلوب منكسرة.. و بكل تواضع حتى لا يرذلنا الله ، طالبين على الدوام قائلين:

" يارب علمنا أن نصلى "  (لو 11: 1).

ثانيا: الصوم

لم يغفل أنطونيوس السلاح الثاني العظيم و هو " الصوم " بل مارسه و تمسك به و حاز قصب السبق فى ميدانه، فقد ذكر عنه أنه كان يصوم أياما متوالية دون طعام و لا ماء، ذلك لأنه يعرف تماما أن:

" هذا الجنس لا يمكن أن يخرج بشيء إلا بالصلاة والصوم " (مر 9: 29).

  و الكتاب المقدس يبين لنا فائدة الصوم وقوته، فأهل نبنوى نالوا عفوا من الله عندما صاموا ولبسوا المسوح، وأول وصية كانت من الله لأبونا آدم هى الصوم.. فقد سمح له أن يأكل من جميع شجر الجنة ما عدا شجرة واحدة.. أراد الله أن يدرب أبوينا آدم وحواء على الصوم والطاعة..

أدرك جماعة الرهبان والنساك قيمة الصوم.. مع الصلاة، فنجد غالبيتهم يصومون أياما طويلة بدون طعام، وعند الضرورة يأكلون القليل على قدر حاجة الجسم فقط.

  و الصوم هو حال السمائيين من الملائكة والقديسين.. فطعامهم هو التسبيح الدائم لله، ونحن عندما نصوم فكأننا نشارك السمائيين حياتهم ونظامهم.. و يكون لنا فرصة حقيقية للصلاة و الإندماج معهم فى التسبيح.



ثالثا: الصدقة

ذلك هو السلاح الثالث تقلده قديسنا العظيم فى خلوته، كان يصرف أوقات فراغه فى العمل اليدوي، وكان هذا يدر عليه ربحا بسيطا لا يستبقى منه سوى شيئا ضئيلاً جداً، أما الباقي فيوزعه على الفقراء والمحتاجين، منفذا قول مخلصنا:

" لا تهتموا للغد لأن الغد يهتم بما لنفسه، و يكفى اليوم شره " (مت 6: 34).

الإنسان الذى يقدم للفقير صدقة فى الخفاء..

لا بد أن يكون إيمانه ثابتاً قوياً إذ هذه هى الديانة الطاهرة النقية! (يع 1: 27).

و المسيحيين الأوائل لم يتوانوا عن تقديم المساعدة لبقية الكنائس التى كانت تحتاج لمعونة بسبب الإضطهاد و الضيق من سلب أموالهم، و يظهر ذلك فى مساعدة كنيسة أنطاكية لفقراء أورشليم، (أع 11: 27، 28).

تلك الأسلحة الثلاث:


صلاة.. و صوم.. و صدقة.. يحتاج إليها كل مؤمن يسير فى الطريق الروحي و حياة النمو..


ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق