القديس يوحنا كاسيان
حياته، كتاباته، أفكاره
القمص تادرس يعقوب ملطي (*)
حياته
نشأته[1]
يعتبر القديس يوحنا كاسيان أحد مشاهير الكتَّاب الروحيين في القرن الخامس في جنوب بلاد الغال (فرنسا)، خاصة في الفكر الرهباني. نجح في تطوير الحياة الرهبانية هناك. كان سفيرًا للتراث الآبائي النسكي القبطي في الغرب. وهو أحد أعمدة التقليد الكنسي النسكي فيما يختص بالطقس الرهباني الحيّ، يربط بين نواحيه الخارجية والداخلية، وبين الطقس والروحانية بطريقة حية. كان ملمًا به بكل دقة، عاشه إلى سنوات في مصر وخارجها، لذا نقله بكتاباته وحواراته كما بكل حياته.
يرى جيناديوس Gennadius of Marseilles أنه ولد في سكيثيا[2] Scythia أي Dobruja))، تدعى حاليًا رومانيا .Romania ويرفض الدارسون المحدثون نسبته إلى سكيثيا، يرى البعض أن تعبير "Scytha" ربما لا يعني انه سكيثي، بل تشير إلى صحراء الإسقيط Scete أوScetis في مصر، حيث قضى كاسيان عدة سنوات في هذه المنطقة، وأنه بسبب التصاقه بها وبآبائها نال شهرته، فحسبت كأنها موطنه.
يرى البعض الدارسين الحديثين أنه من Provence[3].
يلقبه المؤرخون القدامى مثل جيناديوس وكاسيودورس Cassiodrus وغريغوريوس أسقف تور Gregory of Tours "كاسيانوس"، ودعي في بستان الرهبان "قسيانوس الرومي".
وٌلد ما بين 350، 360م وتنيح ما بين 440،450م، إذ عاش حوالي تسعين عامًا. ينتمي كاسيان إلى عائلة مسيحية صالحة، وكان مسيحيًا بالحق، دُعي يوحنا في العماد.
تمتع في صباه بالتعليم الكلاسيكي الصالح[4]، وتحدث اليونانية بطلاقة، متدربًا عليها أثناء وجوده في الشرق. في المناظرة 12: 14 يعلن عن حزنه الشديد أن ما تعلمه في صباه من أدب وما تلقنه من معلمه وخلال جهده الخاص شحن ذهنه بالشعر، حتى أنه كان يفكر فيه أثناء الصلاة، ويتذكر الأمور التافهة وقصص المعارك التي سمعها في طفولته المبكرة. كانت الخيالات ترقص أمامه أثناء تلاوة المزامير، وتثيره فتفقده نقاوة التأمل في الإلهيات. أشار في كتابه "عن التجسد ضد نسطور" إلى معرفته ليس فقط لأعمال آباء الكنيسة الأولين، بل وإلى أعمال الكتاب المشهورين مثل شيشرون Cicero وبيرسيوس .[5]Persius
حياته الرهبانية
حوالي سنة 380م ما أن اجتاز مرحلة المراهقة حتى انطلق إلى فلسطين مع صديقه من نفس بلده جرمانيوس[6]، وقد ارتبطا معًا برباط روحي عميق. هناك استقرا في دير ببيت لحم[7].
بعد عامين انطلق إلى مصر حيث قام بزيارة الرهبان هناك. زار بعض الأديرة التي تمارس نظام الشركة في طيبة، ثم انطلق إلى برية الإسقيط حيث بقي سبع سنوات يلتقي فيها بمشاهير الآباء الرهبان، وقد جاءت أغلب مناظراته ثمرة لهذه الزيارات.
عاد كاسيان بعد سنوات إلى بيت لحم، لكنه لم يبق فيها إلا لمدة قصيرة ثم عاد إلى الإسقيط في عام 386 أو 387م. ((بسبب حملة اضطهاد ضد الرهبان، يتقدمهم الأخوة الطوال، شنّها أسقف الإسكندرية ثيوفيلوس، الأمر الذي أحدث اضطرابا كبيراً حتى أن مجموعات من الرهبان، ففرّوا من براري مصر. أما كاسيانوس فالتحق بخمسين من الرهبان لجأوا إلى القسطنطينية، إلى كنف القديس يوحنا الذهبي الفم)) (الموقع)
ذهب كاسيان إلى القسطنطينية حيث تأثر بالقديس يوحنا الذهبي الفم الذي سامه شماسًا[9]، وسام صديقه جرمانيوس كاهنًا، لكن كاسيان تراجع عن الالتزام بأية مسئولية كنسية[10]. في نهاية حياته أشار إلى القديس يوحنا الذهبي الفم بكل وقار، قائلاً: "ما أكتبه علمني إياه يوحنا، واعتبر ما اكتبه يُنسب إليه أكثر من أن يُنسب إليَّ. فإن المجرى يصدر عن الينبوع، وما يُنسب للتلميذ يلزم أن يُنسب بالكامل لكرامة المعلم.[11]"
في عام 404 ذهب إلى Patria مع صديقه يحملان رسالة موجهة من كهنة القسطنطينية أصدقاء القديس يوحنا ذهبي الفم المضطهد، إذ وثقوا فيهما، لكي يقدما رسالتهم إلى أسقف روما إنوسنت الأول Innocent I، ويطلبون التدخل من أجل أسقفهم المنفي[12]. وفي روما دخل في صداقة مع الشماس لاون الذي صار فيما بعد بابا روما (أول من نادى بالبابوية الرومانية). وقد قدم له كتابًا "عن التجسد الإلهي". في هذه الفترة فقد صديقه العزيز لديه جدًا جرمانيوس، ربما بانتقاله من العالم.
في عام 415 أو 416م أقام كاسيان في مرسيليا ككاهنٍ، وأسس ديرًا للرجال باسم القديس فيكتور أو بقطر، حيث صار الأب الروحي ورئيسًا للدير، وآخر للنساء باسم القديس سالفاتور. سرعان ما انتشرت الحركة الرهبانية هناك وضمت الأديرة الآلاف من الرهبان والراهبات[13].
حقًا لقد سبقه أونراتس أو هونوراتس Honoratus في التهيئة لتأسيس دير في جزيرة الليران Lérins وذلك في سنة 410م، وقد تولى كاسيان تكملة تأسيسه، وظل يحمل اسمه حتى اليوم. وقد نال شهرة عظيمة، لكن كاسيان قدم لأول مرة نظامًا محكمًا للحياة الرهبانية يحمل الفكر الرهباني الشرقي، خاصة مصر، خلال كتابيه المشهورين[14]. يقول فرند أن كاسيان أمد الولايات الغربية بالنظام الرهباني الذي يمكنهم أن يقبلوه، والذي أعد الطريق للنظام البندكتي[15].
ويقول Montolembert إنه سرعان ما صار هذا الدير مدرسة للإلهيات والفلسفة المسيحية، وقلعة منيعة ضد أمواج البربرية، وملجأ للعلوم والآداب عندما غزا الغوطيون إيطاليا. وبالاختصار صار هذا الدير مربيًا للأساقفة والقديسين.
قدم كاسيان إرشادات لكاستور أسقف Apt بخصوص الأديرة الحديثة، وطلب إعادة تنظيم الرهبنة قي الغرب، متأثرًا بخبراته الرهبانية في الشرق، مطالبًا بمزج حياة الشركة ببعض أساسيات لحياة الوحدة.
إذ تأثر المسيحيون في الغرب بترجمة" حياة أنطونيوس بقلم القديس أنبا أثناسيوس" إلى اللاتينية وكتابات روفينوس عن آباء البرية في مصر، جاءت حركة القديس كاسيان الرهبانية في جنوب بلاد الغال في الوقت المناسب ليحقق ما اشتهاه البعض. وكما يقول Montalembert في كتابه "رهبان الغرب" إن كاسيان فتح ذراعي الحب إلى أبناء كل الشعوب الذين يرغبون في حب المسيح، فانضم إليه جمع من التلاميذ من كافة الشعوب. فلم يعد الغرب يحسد الشرق. غير أن تشكك البعض في أرثوذكسية كاسيان بسبب هجوم أتباع أغسطينوس عليه كما سنرى، إذ اتهموه بالميول البيلاجية، حد من دوره.
إن كان بندكت منشئ أعظم رهبانيات الغرب ويفوق كاسيان في شهرته مدين لكاسيان، فمعظم قوانين الرهبنة في النظام البندكتي مأخوذة عن القديس كاسيان مباشرة.
وتستطيع أيضاً العودة إلى حياة القديس في سير الآباء الموجودة في الموقع هنا
------------------------------
(*) من آباء الكنيسة القبطية
[1] Quasten: Patrology, vol. 4, p. 512 ff.
[2] De Vir Illus. 62.
[3] N& PN Frs. Series 2, vol. 11, p. 183.
[4] Conf. 14: 5.
[5] De Incarn., 6: 9: 10.
[6] Conf. 1: 10.
[7] Conf. 14: 1.
[8] راجع كتابنا: القديس يوحنا الذهبي الفم 1981.
[9] De incarn. 8: 31: 1.
[10] Instit. 2: 18.
[11]De Incarn ., 7: 30.
[12] Palladius: dialogue 3: 3.
[13] K.S. Latourettte: A History of Christianity, 1953, p. 133.
[14] cf. J.W.C. Wand: A History of the Early Church to A.D. , 1979, p. 197.
[15] W.H.C. Frend: The Early Church, 1989, p. 197.
كتاباته
في مارسيليا بناء على طلب الأسقف كاستور وضع كاسيان العملين التاليين:
وضع كاسيان "المؤسسات لنظام الشركة" يحوي الجوانب الخارجية التنظيمية والطقسية للحياة الرهبانية والمحاربات الروحية التي يتعرض لها الراهب في نظام الشركة، وجاء عمله الثاني "المناظرات" ليكمل هذا العمل ويدخل بنا إلى عمق الفكر الرهباني الحي، كحياة شركة داخلية مع مخلص البشرية. وكأن العملين مرتبطان معًا بمنطق روحي وهدف واحد. الأول اهتم بالجانب الجماعي العملي والتنظيمي بمنظار روحي، والثاني اهتم بالجانب الشخصي الروحي، دون فصل بينهما، فالعملان ركزا على الحياة الرهبانية وتقاليدها وروحها.
Collationes Patrum (Conferences)
مجموعة من المناظرات قام بها القديس كاسيان وصديقه جرمانيوس مع أعظم آباء البرية في مصر خلال وجودهما هناك لمدة سبع سنوات. المناظرات في مجموعها تمثل حوارات مع آباء نساك مصريين قام القديس كاسيان بإعادة صياغتها[59].
ينقسم كتاب المناظرات إلى ثلاثة أجزاء:
الجزء الأول:
المناظرات1-10. مستقي من رحلته إلى الإسقيط، كُتب بناء على طلب الأسقف كاستور الذي تنيح في ذلك الوقت (425 أو426)، لذلك وجه العمل إلى أخيه ليونتيوس Leontius of Fréjus وإلى المتوحد هيلاديوس.
الجزء الثاني:
المناظرات 11-17؛ موجهة إلى الأخوين هونوراتيوس ويوخيروس. أكمل في عام 427م، ووضع في Panephysis في بدء رحلته إلى مصر، وقد جاءت المناظرات هنا مرتبة حسب الترتيب التاريخي (الزمني).
الجزء الثالث:
المناظرات18-24؛ موجهة إلى أربعة آباء رهبان في Lérins، هم جوفنيان ومنيرفيس وليونتيوس وثيؤدور.
المناظرات 18-20 كتبت ما بين 428- 429م، وضعت في Dioclos.
والمناظرات 21-24 وضعت في Panephysis، ويبدو أنها تخص فترة الإسقيط.
ملاحظات حول المناظرات
1. هذا العمل مع العمل السابق قدما للغرب للانتفاع بالخبرة الرهبانية المصرية، ولا يزال الكتَّاب الرهبان المتأخرون يستخدمونهما ويمدحونهما مثل بندكت،ويُحسبان من المستندات الهامة في اللاهوت السلوكي (الأخلاقي) والتكريس المسيحي والحياة الباطنية[60] mysticism.
2. انتشرت الأجزاء الثلاثة من هذا العمل في مناطق كثيرة، كل جزء مستقل عن الآخر، ولأول مرة نجد الثلاثة أجزاء معًا في مخطوط باريس[61] الذي يرجع إلى القرن التاسع.
3. لم تسجل هذه المناظرات كمقالات دراسية، لكنها هي لقاءات مع قادة روحيين للمساندة في التمتع بالنمو الروحي. لهذا لا نجد المناظرات موضوعة بترتيب منطقي دراسي، إنما كل مناظرة تمثل وحدة مستقلة.
4. عدد المناظرات 24 يذكرنا بالأربعة وعشرين قسيسًا السمائيين المذكورين في سفر الرؤيا، وكأنها تكريمًا للحمل مخلص العالم.
5. إن كان كتاب المعاهد يهتم بالتنظيم الرهباني في حياة الشركة، فإن المناظرات تقدم الجهاد الروحي الشخصي للتمتع بالاتحاد مع الله في صورة كاملة. إنها تقدم حياة المسيحي، خاصة الراهب، كجندي ومصارع يحتاج في معركته الروحية إلى قيادة مع التمييز والإفراز. وهي تعالج مواضيع روحية هامة مثل جحد العالم، حياة الإماتة، الصراع مع الخطية والشياطين، الصداقة، مواجهة الضيقات، الصلاة وأنواعها الأربعة.
6. تعالج المناظرة 9 أربعة أنواع من الصلاة، وتقدم انعكاسات على الصلاة الربانية.
7. تمدنا المناظرة 10 بوصف حي لممارسة الصلاة الدائمة.
8. مناظرة 16 تمتدح دور الصداقة في النمو الروحي، فمع الاهتمام بالعلاقة الشخصية مع الله، لكنها ليست بروح الانعزالية عن الغير.
ثالثًا: التجسد الإلهي ضد نسطور (لعدم وجود نص التجسد الإلهي في الكتاب -عكس الكتابين الأولين- فقد قام الموقع بنقل هذه الجزئية بتصرف)
De incarnalion Domini contra Nestioius libri VII
في عام 430م كتب القديس كاسيان سبعة كتب بناء على طلب لاون رئيس شمامسة روما (01)، لكي يحطم الهرطقة النسطورية، وهي لا تحمل شهرة كالعملين السابقين.
بدأ كاسيان بتفنيد البيلاجية كمصدر لكل الشرور، معلنًا أن البيلاجية هي مصدر انحراف نسطور المعلن في عظاته: "يسوع المسيح الذي ولد من العذراء رجل عادي، وبسبب حياته الفاضلة استحق الاتحاد باللاهوت[62]".
أكد كاسيان اتحاد الطبيعتين، في أقنوم واحد[63]، وأكد أن استخدام تعبير "ثيوتوكوس" كلقب للقديسة مريم ترجع جذوره إلى العهدين الجديد والقديم، مقدمًا نصوصًا من كتابات الآباء تؤكد ذلك[64]. أخيرًا وجه التماسًا حيًا من مسيحي القسطنطينية أن يبقوا مخلصين لأسقفهم يوحنا.
في الواقع ليس رجل لاهوت بالطبيعة، لكنه إنسان روحي، يهتم بالجانب العملي لتطبيق اللاهوتيات كمثال يقول إن كان السيد المسيح ليس هو ابن الله وابن الإنسان تصير كل جهود الراهب للتمتع بالتأله الموعود به باطلة.
-------------------
(01) لاون الذي أصبح بعد ذلك أسقف روما. إذاً نراه قبل عقد المجمع المسكوني الثالث يطلب من القديس يوحنا كاسيانوس أن يكتب ضد نسطوريوس والهرطقة النسطورية، فكيف يدّعي عليه البعض ويقول بأن البابا لاون نسطورياً -حاشا- وبأن المجمع المسكوني الرابع الذي دعا إلى عقده أيضاً نسطوري-حاشا-؟؟؟ (الموقع)
[59] Everett Ferguson: Encyclopedia of Early Christianity, 1990, p. 180.
[60] Mysticism J .Brouer: The Westminster Dictionary of Church History, 1969, p. 165.
[61] Nouv. acq. lat. 2170.
[62] De incarn., 5: 1
[63] Ibid 3: 7.
[64] Ibid 7: 24 -43.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق